جيم جارموش وقطار الغموض
استطاع المخرج الأميركي جيم جارموش في ظرف سنوات وجيزة خلق تعبيره السينمائي المميز، وهو من أولئك السينمائيين القلة في أميركا، الذين يتشبثون بمنظورهم التعبيري الخاص، الذي يؤكد على اغتراب الإنسان في المجتمع الحديث، اقتلاع الإنسان من جذوره، خيبة علاقاته العاطفية، وحتمية الفراق، إنه شاهد على هذه الأمواج البشرية المتلاطمة في المدن الكبيرة، وبالأخص مدينة نيويورك، خليط من البشر بألوان ولغات عديدة، يحملهم قطار المنفى التائه بينما تنضح وجوههم بالحرمان وفوق جباههم تبرق نجمة اليتم. لقد أنجز جيم جارموش مجموعة من الأفلام، منها فليم «غريب في الجنة» الذي يرصد بحساسية شديدة حياة عبثية يعيشها شابان في نيويورك، وهو فيلم يتحدث بروح السخرية والنقد عن حياة فقدت معناها في ظل التكنولوجيا والأجواء الاستهلاكية التي لا ترحم، الفيلم سلسلة من المواقف الساخرة لشخصيات مهمشة وينتهي الفيلم عندما تحين حتمية الفراق. الفيلم الثاني لجارموش «تحت الأرض بحكم القانون» يتحدث فيه عن ثلاث شخصيات تدخل في مغامرات غامضة، في مدينة «نيوأورلينز» عوالم تحت الأرض، عاهرات، مخدرات، سكارى، منسيون، وبلا ملامح، وبأسلوب مونتاج طليعي وطريقة سرد مميزة أنجز جارموش «تحت الأرض بحكم القانون» بهدوء وبعيداً عن الإثارة التي عودتنا إياها سينما هوليوود. قدم جارموش «قطار الغموض» فيلمه الثالث في مسيرته السينمائية، وفي هذا الفيلم يبلغ هاجس الترحال ذروته الكبيرة، حيث تدور أحداث الفيلم في مدينة «ممفيس» من ولاية تنيسي الأميركية، وهو يطرح ثلاث قصص، كل أحداثها الرئيسة تدور في أحد فنادق المدينة على مدار 24 ساعة. يبدأ الفيلم بلقطة عامة لقطار قادم من بعيد، يهبط منه سائحان يابانيان، جاءا إلى «ممفيس» للحج إلى ملك الروك، يتجولان في شوارع المدينة وبدقة يختار جارموش الأماكن المنسية المهجورة كمسرح لتحريك شخصياته، وفي الفندق المطل على محطة القطار يسكن العاشقان اليابانيان، ولكنهما يشعران باستحالة الحب في هذه المدينة الباردة كالجثة، وعندما تسمع المرأة طلقات الرصاص الصباحية تتساءل خائفة مذعورة: «يا إلهي ما هذا؟» لكن صديقها يرد عليها ببرود «إنها أميركا» وعندما تصل «لويسا» المرأة الإيطالية للتعرف على جثة زوجها المقتول في ممفيس تختار غرفة في نفس الفندق مع فتاة أميركية مطلقة تبحث عمن تحكي له قصة طلاقها وبؤسها، وفي الصباح تستيقظان على أصوات طلقات الرصاص كما لو أنها سيمفونية الصباح الأميركي، هكذا يحشر جارموش شخوصه في مكان واحد تجمعهم علاقات عابرة ومبهمة، ويدفع مشهد القطار المتكرر في الفيلم هذه الموضوعة إلى أقصاها فكأنما الحياة ذاتها ليست أكثر من محطة قطار لأفراد يلتقون مصادفة، ثم يفترقون بالضرورة. الشخصية الأخرى التي يقدمها «قطار الغموض» هي جوني الزوج السابق للفتاة الأميركية «ديدي» جوني هذا الذي هجرته زوجته وطرد من عمله ووجد نفسه مفلساً، يلجأ إلى حانات العالم السفلي ليحتسي بؤسه بصمت، وفي عالم لا لغة له سوى العنف يضطر «جوني» إلى استخدام لغة العنف أيضاً في لحظة يصعب فيها التفريق بين الجلاد والضحية، هكذا تلتقي في فندق «الاركاد» شخوص الفيلم وكل منها يحمل جرحه الخاص، فتبدأ مغامرة الهرب من مدينة الجحيم هذه، كل بطريقته الخاصة، التي لا تخلو من عبثية مبهمة. استعان جارموش بمدير التصوير المعروف «روبي مولر» الذي عُرف باشتغاله مع السينمائي الألماني فيم فندرز، فقدم مشاهد قلقة بأسلوب ينسجم مع رؤى جارموش السينمائية، وما يلاحظ في كل أفلام جيم جارموش هو وجود شخصية الغريب أو الأجنبي، هذه الشخصية التي غالباً ما تحمل رؤية جارموش النقدية والساخرة تجاه المجتمع الأميركي، ففي فيلم «غريب في الجنة» هناك ايفا الهنغارية ثم شخصية المهاجر الإيطالي في فيلم «تحت الأرض بحكم القانون» وأخيراً السائحان اليابانيان اللذان كانا يحملان فكرة مثالية عن أميركا ثم لم يجدا سوى «الأرض الخراب». وربما تكمن قوة إخراج جارموش في هذا العمل المكثف والحميمي مع الممثلين ودفعهم للابتكار في الأدوار التي يمثلونها، وهي تجربة متميزة للعمل الجماعي تأتي عكس سينما هوليوود وسينما المؤلف الأوروبية ويبدو أن جارموش قد تعلم هذا الأمر من أستاذه «نيكولاس راي» السينمائي المعروف الذي توفي بداية الثمانينيات.