الحصى أيضاً قد تكون مفيدة

نشر في 23-02-2012
آخر تحديث 23-02-2012 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت من المسَلَّم به على نطاق واسع أن الولايات المتحدة تملك أعمق أسواق رأس المال وأكثرها سيولة وكفاءة على مستوى العالم. فالنظام المالي الأميركي يدعم كفاءة تخصيص رؤوس الأموال، والتنمية الاقتصادية، وخلق فرص العمل.

الواقع أن هذه العبارة وما شابهها من عبارات أخرى كانت بمنزلة عملة رائجة بين المشرعين والقائمين على التنظيم والشركات المالية في الولايات المتحدة لعقود من الزمان، وحتى في أعقاب الأزمة المالية التي اندلعت في عام 2008، انتشرت مثل هذه العبارات في مئات الطعون التي تحدت ما يسمى بقاعدة فولكر (التي كانت ستمنع البنوك من الاستثمار في الممتلكات). ولا شك أن القارئ العابر يومئ برأسه كعلامة على الموافقة ثم ينتقل على موضوعات أخرى.

ولكن هناك من العلامات ما يشير إلى أن هذه الافتراضات أصبحت الآن موضع طعن، فقبل الأزمة، كانت السلطات التنظيمية تركز في الأساس على إزالة الحواجز التي تعوق التجارة، وكانت تحابي عموماً التدابير التي جعلت السوق أكثر اكتمالاً من خلال تعزيز التداول الأسرع والأرخص لمجموعة أوسع من المطالبات المالية. بيد أن الحال تبدلت الآن، فعلى النقيض من ذلك، يشكك العديد من الناس اليوم في افتراض مفاده أن زيادة كفاءة الأسواق تشكل دوماً وفي كل مكان منفعة عامة.

ولكن أليس من الممكن أن تعمل هذه السهولة والكفاءة أيضاً على تغذية عدم الاستقرار وخدمة مصالح الوسطاء وليس عملائهم؟ إن عبارات مثل "رمال في تروس الآلة"، و"حصاة في المحارة"، والتي كانت تصف أمراً سيئاً في أيام عام 2006 الطيبة، والآن أصبحت تستخدم في دعم التغييرات التنظيمية أو المالية التي قد تعمل على إبطاء التداول وتقليص حجمه.

على سبيل المثال، كانت الضريبة المقترحة على المعاملات المالية في الاتحاد الأوروبي تعني ضمنياً رسماً واسع النطاق الغرض منه توليد أكثر من 50 مليار يورو سنوياً لدعم الموارد المالية للاتحاد الأوروبي وإنقاذ اليورو. وحقيقة أن 60% إلى 70% من العائدات سوف تأتي من لندن تشكل عامل جذب إضافياً في نظر أنصار هذه الضريبة على مستوى القارة. ويزعم المعارضون، باستخدام لغة ما قبل الأزمة، أن ضريبة المعاملات المالية من شأنها أن تقلل من كفاءة السوق وأن ترغم التداول على النزوح إلى مواقع أخرى. ويجيب المدافعون: "وماذا لو حدث هذا؟ فربما كان القسم الأكبر من التداول عديم الفائدة اجتماعيا، فنصبح في حال أفضل في غيابه".

ولقد أثارت قاعدة فولكر (على اسم رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق بول فولكر) حججاً مماثلة. فقد اشتكى المنتقدون من أن هذه القاعدة من شأنها أن تقلص السيولة في أسواق مهمة، مثل أسواق الديون السيادية غير الأميركية. وفي الدفاع عن اختراعه، يعود فولكر إلى زمن أكثر بساطة بالنسبة إلى النظام المالي، ويشير إلى "أسواق الأوراق المالية المفرطة السيولة والميالة إلى المضاربة". والواقع أن رسالته واضحة: فهو لا يشعر بالقلق إزاء انخفاض أحجام التداول.

ولكن هناك المزيد من الحصى في الأفق، ففي تحليل بارع للانهيار المفاجئ في السادس من مايو 2010، عندما خسر مؤشر داو جونز تريليون دولار من قيمته السوقية في غضون ثلاثين دقيقة، يزعم أندي هالدين من بنك إنكلترا أنه على الرغم من إمكانية الربط بين ارتفاع رأسمال أسواق الأوراق المالية وبين التطور المالي والنمو الاقتصادي، فلا وجود لمثل هذه العلاقة بين رأسمال السوق والنمو.

فقد ارتفع رأسمال الأسواق المالية في الولايات المتحدة أربعة أضعاف في غضون الأعوام العشرة التي سبقت الأزمة. ولكن هل استفاد الاقتصاد الحقيقي من هذا؟

يستشهد هالدين بإحصائية مذهلة: ففي عام 1945، كان المستثمر المتوسط يحتفظ بالسهم الأميركي المتوسط لمدة أربعة أعوام. وبحلول عام 2000، هبطت فترة الاحتفاظ إلى ثمانية أشهر؛ وبحلول عام 2008 أصبحت شهرين فقط. ويبدو أن هناك صلة بين هذا الانخفاض الحاد في الفترة المتوسطة للاحتفاظ بالأسهم والظاهرة التي أطلق عليها "الشركات التي بلا ملكية"، والتي بمقتضاها لا يجد حاملو الأسهم حافزاً يُذكَر لفرض الانضباط على الإدارة. وبدوره أسهم غياب المساءلة على هذا النحو في الارتفاع المذهل لتعويضات كبار المسؤولين التنفيذيين وفي دفع الشركات المالية إلى التحول بعيداً عن عائدات المساهمين ونحو دفعات ضخمة لمتعاملين من الداخل.

بيد أن مصدر انزعاج هالدين الرئيسي كان يتعلق باستقرار الأسواق، وخاصة التهديد الذي فرضه ارتفاع وتيرة التداول. وهو يشير إلى أن ارتفاع وتيرة التداول مسؤول بالفعل عن نصف إجمالي دورة رأس المال في بعض أسواق الدين والعملات الأجنبية، وأن هذا الارتفاع يهيمن في أسواق الأوراق المالية في الولايات المتحدة، ويمثل أكثر من ثلث التداول اليومي، بعد أن كان أقل من الخمس في عام 2005.

ومن المرجح أن تستمر التحولات السريعة الدرامية التي أحدثها ارتفاع وتيرة التداول، فلم يمر سوى عشرة أعوام منذ هبطت سرعات التداول إلى أقل من ثانية واحدة؛ وهي الآن أسرع من طرفة عين. وتَعِد التطورات التكنولوجية بتداول أسرع حتى من ذلك في المستقبل القريب.

الواقع أن شركات التداول السريع تتحدث عن "سباق إلى الصفر"، وهي النقطة التي يبلغ التداول عندها سرعة الضوء. تُرى هل ينبغي لنا أن نرحب بهذا الاتجاه؟ وهل يمنحنا التداول بسرعة الضوء سكينة السوق الحرة؟

الواقع أن الأدلة ملتبسة، فقد يبدو الأمر وكأن الفوارق بين العروض في انخفاض، وهو ما قد نعتبره إيجابيا، ولكن التقلبات ارتفعت، كما أصبحت احتمالات انتقال العدوى بين الأسواق أعظم، فعدم الاستقرار في أحد الأسواق يمتد إلى أسواق أخرى.

أما عن السيولة، فرغم أنها تبدو أعمق على السطح، فإن التقرير المشترك عن الانهيار المفاجئ، والذي تم إعداده بالاشتراك بين لجنة الأوراق المالية والتداول ولجنة تداول السلع الآجلة في الولايات المتحدة، يظهر أن تجار التداول السريع تسببوا في تراجع السيولة بشكل حاد، الأمر الذي أدى بدوره إلى تفاقم المشكلة، والواقع أن السيولة التي يقدمونها ظاهرياً أثبتت عدم جدارتها بالثقة تحت الضغوط، أي عندما تشتد الحاجة إليها.

والأمر ينطوي على دروس للقائمين على التنظيم، فأولا، تتطلب مراقبة الأسواق قفزة نوعية في التطور والسرعة. وهناك أيضاً حجة مؤيدة للنظر من جديد في عملية قواطع الدائرة (التي ساعدت أسواق شيكاغو أثناء الانهيار)، ولزيادة الالتزامات

من جانب صناع السوق.

ولابد من دراسة هذه الخطوات بعناية، ذلك أن الالتزامات الأكبر من شأنها على سبيل المثال أن تدفع صناع السوق إلى الخروج من السوق. ولكن الاستنتاج الذي توصل إليه هالدين بأن الأسواق في الإجمال أقل استقراراً كنتيجة للارتفاع الحاد الذي سجلته دورة رأس المال، وأن "الحصى على الطريق" من الممكن أن يساعد في الحيلولة دون حدوث الانهيار المقبل.

وبالتالي فإن الدفاع التقليدي من جانب أسواق رأس المال في الولايات المتحدة، وأوروبا في واقع الأمر، لم يعد بدهياً كما كان يبدو ذات يوم. ويتعين على المشاركين في السوق أن ينخرطوا بشكل أكثر فعالية في الأجندة الجديدة، لا أن يفترضوا أن المزاعم الخاصة بزيادة "كفاءة السوق" سوف تكون لها الغلبة في النهاية. ومن دون الاستعانة بحجج أكثر تعقيدا، فقد تنتهي بهم الحال إلى الغرق تحت أكوام من أكياس الرمل التنظيمية.

* هاورد ديفيز الرئيس السابق لهيئة الخدمات المالية البريطانية، ونائب محافظ بنك إنكلترا سابقا، ومدير كلية لندن للاقتصاد سابقا، وأستاذ بمعهد العلوم السياسية في باريس.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top