لكي تقول وداعاً من أعلى الإطلالة

Ad

السهل والنهر ضائعان في الشفق

والعصافير تؤوب في ظل الغروب

ذلك الرجل يمشي وطريقه دائماً هي الأبعد

الشاعر الصيني وانغ وي

القفلة الشعرية التي انتهى إليها المقطع السابق تبدو أقرب إلى الحكمة، وهي بيت القصيد، رجل يمشي وطريقه هي الأبعد، يتداخل هذا المشي/ المشوار الشعري أو ينسجم عضوياً مع ما سبقه من أبيات تتضمن وصفاً للطبيعة، وانبساطاً للأرض الخضراء، حيث التمهيد، ومن ثم المفارقة التي تصطنع جماليتها، وتصطاد الدهشة.

لا يمكن لك أن تفلت من سطوة الطبيعة وأنت تقرأ الشعر الصيني أو الياباني المعاصر، مترجماً بالطبع إلى العربية، ومع إقرارنا بأن الشعر الصيني المعاصر لم يلق العناية لدى قراء العربية بالقدر ذاته الذي رأيناه في الشعر الياباني، فهذا الأخير مترجم إلى العربية بإفراط، وتكاد تكون قصائد الهايكو ممثلة في شاعرها الأكبر باشيو معروفة لدى قراء العربية، ولا أريد أن أقول «محفوظة». هذه الحسية المفرطة التي نجدها في قصائد الهايكو ساهمت في خلق ذائقة جمالية عربية، بعيدة بعض الشيء عن بلاغة التجريد اللفظي، التي عاشها شعرنا ردحاً من الزمن، وليست قصيدة الهايكو وحدها ما يسجل حضوراً لدى قراء العربية، وإن كنا لا نغفل جهود الأدباء الذين ساهموا في ترجمة هذه القصائد، ولعل أبرزهم الشاعر الزميل محمد الأسعد الذي يبدو مغرماً بـ»معلّمه» باشيو إلى أبعد مدى. أقول ليست قصيدة الهايكو وحدها، فنحن اليوم نقرأ عن قصيدة «التانكا» وهي الأقرب إلى الحداثة إذا ما قورنت بقصيدة لها جذورها وتقاليدها الشعرية مثل الهايكو.

بالعودة إلى الشعر الصيني أجد أنه من المفيد جداً التوقف عند كتاب «الكتابة الشعرية الصينية، مع مختارات من شعر مرحلة آل تانغ» الذي ترجمه إلى العربية عدنان محمد وصلاح صالح،، فهذا الكتاب بحجمه الكبير نسبياً، يعد مرجعاً تأريخياً، لا غنى عنه، فهو يتتبع جذور الكتابة الصينية من حيث الشكل (الخط)، ومميزاتها، وعلاقة ذلك بالبلاغة الشعرية وأسلوب الكتابة، والموسيقى، ومن ثم عناصر الأسطورة، والمستوى النحوي، وبعض التفصيلات المتعلقة بالضمائر، وحذف بعض الأحرف، وأدوات التشبيه والأفعال.

كل هذه المسائل قد تبدو مملّة لمن لا يريد الاستغراق في التاريخ النظري للكتابة الشعرية، خصوصا ونحن نتحدث عن مرحلة آل تانغ، وهم الذين حكموا الصين قبل ما يربو على ألف ومئة عام.

ولكن قارئ الكتاب، أو من هو مغرم بتأمل جماليات القصيدة مثلما هو الحال معي، يجد سلواه الحقيقية في النماذج الشعرية التي نقرأها في القسم الثاني من الكتاب، الذي نقرأ فيه النصَّ الأصلي من كل قصيدة، مع ترجمتها الحرفية كلمة كلمة، ومن ثم الترجمة التفسيرية للنص، وهذه الأخيرة تحمل روح العربية، وتأتي متناغمة مع سياقها العام، وكان بالإمكان الاكتفاء بها، ولكن الكتاب كما قلت ليس مجرد ترجمة قصائد بل هو تأريخ، ومناقشة لعلم الكتابة الصينية بأحرفها التصويرية التي تبدو غريبة وأشبه بالطلاسم لدى قراء العربية أو اللغات المكتوبة بالأحرف اللاتينية، إذن نحن هنا أمام جهد لدراسة علم اللغة الصينية، مع وقفة عند قصائد وشعراء كثر.

تعرض هذه المنتخبات الشعرية، بحسب مؤلف الكتاب وهو البروفيسور الصيني فرانسوا شينغ، للأشكال الشعرية الرئيسية المستعملة في عصر آل تانغ، مثل الرباعيات والثمانيات وشعر الأسلوب الجديد وشعر الأسلوب القديم، مع تراجم موجزة لحياة أبرز الشعراء الصينيين في تلك المرحلة.