في أكثر من مرة سمعت هذا السؤال: ما حاجة فلان الفلاني وهو ابن العائلة العريقة وصاحب الوجود الاقتصادي والمالي الثقيل جدا، للمنافسة على عضوية البرلمان؟ ما حاجته لذلك وهو من هو بنفوذه ووصوله وقدراته الكبيرة؟!

Ad

وجهت السؤال إلى صديق سأكتفي بالقول إنه فرد من واحدة من أعرق وأثقل هذه العائلات الكويتية، فقلت له ما حاجتكم لهذا الأمر؟ فأجابني بمباشرة صريحة فاجأتني، قائلا: "يا ساجد نحن نشعر بأن دورنا نحن أبناء العوائل في هذا البلد قد تم تحجيمه"! أجبته مستغرباً، وكيف ذلك وأنتم المسيطرون على أغلب إن لم يكن كل المفاصل الاقتصادية للبلاد ونفوذكم غير محدود؟ فقال: "لقد صار لدينا شعور راسخ بأن مقاليد السلطة التشريعية قد ذهبت إلى غيرنا وغدت تحت وطأة العبث السياسي، مما أدى إلى تهديد مصالح البلاد بأسرها وبالمحصلة تهديد مصالحنا، وصار من اللازم علينا الحرص على إيجاد موطئ قدم لنا على هذه الخريطة". (انتهى كلامه).

الكل يعرف أن صناعة الدستور، بل عموم الديمقراطية الكويتية ومفهوم الدولة الحديثة، تم في أغلبه على أيدي أبناء هذه العائلات الكويتية العريقة، ولذلك فمن الطبيعي والمفهوم، عندي على الأقل، أن يشعر أبناؤها بأن لهم يدا متجذرة في تاريخ الكويت على هذا الصعيد، ومن الطبيعي كذلك أن يمارسوا حقهم في البقاء على خريطة السلطة التشريعية، وسيظل الأمر طبيعيا إن هو بقي في هذا السياق، لكنه حتما سيواجه حقيقة أن الدولة قد تطورت وأن ديموغرافيا المجتمع ما عادت على ما كانت عليه، وأن "الآخرين" الذين لا يمتلكون نفس العراقة السياسية التي يمتلكها أبناء هذه العائلات، قد صاروا يشكلون نسبة لا يستهان بها من الواقع السياسي، بل قد صاروا يشكلون الأغلبية السياسية في السلطة التشريعية وفي عموم الحراك السياسي.

وهذا الواقع هو نتيجة طبيعية للتطور، ولا أظنه كان خافيا على مؤسسي الدستور وفكرة الدولة الحديثة، بل إن مفهوم الدولة الحديثة يقوم على أن الأصل في الأمور هو المواطنة المتساوية تحت مظلة الدستور والقانون، وأنه لا امتياز لأحد بسبب الأقدمية في الوجود أو التبعية لهذه الجماعة أو الطائفة أو الفئة.

استشعار أبناء "العوائل" بأن "الآخرين" قد استولوا على مساحتهم وحصتهم في السلطة والوجود، هو استشعار مرفوض إن كان من باب أنهم يظنون أن لهم امتيازا ما أو أفضلية عمن سواهم بحكم أقدميتهم وارتباطهم بتأسيس الدولة، لكنه يتحول إلى استشعار له وجاهته إن نحن نظرنا بعين المنصف إلى ما يفعله هؤلاء "الآخرون" عبر حصولهم على هذه المساحة، وهذا الوجود المؤثر في السلطة التشريعية، لأن قيام الكتل القبلية أو الطائفية أو الفئوية، أيا كانت، بتحويل مساحتها في البرلمان إلى مساحة مؤجرة في أغلبها، إن لم يكن بالكامل، لخدمة مصالحها وأتباعها والمنتمين إليها على حساب المصلحة العامة لمواطني الدولة، سيؤدي بطبيعة الحال إلى ردة فعل مقابلة عند الآخرين، وإلى انغلاقهم كذلك على أنفسهم وإلى تحولهم من الشأن العام إلى الشأن الخاص، والتفافهم على من يشبهونهم، ليتحول البرلمان في النهاية إلى خنادق فئوية تنكفئ على مصالحها، وربما تعمل ضد بعضها بعضا، منشغلة بذلك عن دورها التشريعي والرقابي الحقيقي. إن هذه الجزئية من الصورة، بالإضافة إلى جزئيات واضحة أخرى كالانتخابات الفرعية واستغلال الجماعات الدينية للقبيلة والالتفاف الطائفي واستغلال المال السياسي وغيرها من الممارسات غير الصحيحة ديمقراطيا، تشكل صورة قاتمة عامة ما هي إلا نتاج مباشر لكون مجمل ديمقراطيتنا لاتزال قائمة على الممارسة الفردية وليس على الممارسة الجماعية، سواء جاءت هذه الممارسة الجماعية على هيئة أحزاب أو مجموعات أو قوائم، تنضوي كلها تحت مظلة الدستور والبرامج الوطنية، ولا تستند إلى غير ذلك.

هذا الأمر، في قناعتي، سيظل هو العائق الأساس ضد أي انطلاقة ديمقراطية تنموية حقيقية لدولتنا، وما لم ندرك ذلك جميعا ونعالجه، فليس هناك من أمل بإنجاز كبير.