الهند تتكلم العربية
لعل أقدم ما نعرفه عن علاقة الهند بالعرب يتمثل في مفردة لغوية رائجة الشيوع في الشعر الجاهلي، وأعني بها كلمة (مهنّد)، التي تعني: السيف المصنوع في الهند، وهو من أجود أنواع السيوف. وإن كان ثمة معلومات أخرى حول هذه العلاقة فإنها غالباً لا تتعدى نثاراً من المعلومات الشحيحة حول وصول الفتوحات الإسلامية إلى السند وما جاورها. وعلى النطاق المحلي ربما نتذكر رحلة السفر قديماً للتجارة مع الهند على متن البوم والبغلة. أما العلم بما سوى ذلك من علاقات ثقافية وفكرية فيكاد يكون معدوماً.كنتُ في زيارة إلى الهند ضمن وفد رسمي الأسبوع الفائت، وكان الهدف من هذه الزيارة توطيد العلاقات الثقافية بين الكويت والهند والتحدث حول مساراتها التاريخية والثقافية. وفي مثل هذه الزيارات لبلدان بعيدة وغريبة، عادةً ما تكتسب صنوفاً من المعلومات والانطباعات، وتستشعر ألواناً من القرب الإنساني والمعرفة القلبية للطباع والخُلُق.
أما المعلومات الجديرة بالالتفات فتتمثل في مدى تغلغل الثقافة العربية واللسان العربي في الهند قديماً وحديثاً. ويكفي للتدليل على ذلك بتعداد المراكز الثقافية والجامعات التي تدرّس اللغة العربية لطلبة العلم، وتلك التي تحتفظ بمكتباتها بآلاف المخطوطات العربية التي خلفها علماء المسلمين إبان فترة الحكم الإسلامي الذي بدأ منذ الفتح الإسلامي لبلاد الهند عام 92 هجرية 711م، وحتى مطالع القرن التاسع عشر الميلادي. وأثناء هذه الفترة أثرى العرب المسلمون الحياة الأدبية والعلمية، وبقيت بعض من آثارهم في المكتبات العامة والخاصة ومعظم الجامعات الهندية. ولكن –كما يفيد الزميل الدكتور عبدالله القتم- ظلت الدراسات حول هذه الآثار شحيحة، واهتمام الدول العربية بهذه الثرورة لا يكاد يُذكر. ورغم بُعد العهد بالوجود العربي الثقافي الفاعل، فإن الطلبة المسلمين في أقسامهم العلمية لايزالون يملكون الطموح المتوقّد لإجادة اللغة العربية وإظهار براعة نادرة في التحدث بلسان عربي قويم! لمسنا ذلك في الجامعة الملّية الإسلامية التي استضافتنا بين رحابها، ورأيناه في أحاديث الأساتذة الأفاضل العاملين في هذه الجامعة وجامعة "جواهر لال نهرو" والجامعة العثمانية وغيرها من المراكز العلمية في الهند.ولعل من أفضال هذه الزيارة أيضاً ما اطّلعتُ عليه عن قرب من جهود طيبة ومثمرة يعود الفضل فيها إلى الزميل العزيز الدكتور عبدالله القتم. فقد بدأت عناية هذا الرجل بالشأن الثقافي في الهند منذ ما ينوف عن عقد من الزمان، وأولاه من وقته وجهده ما يستحق عليه الشكر والعرفان. فإلى جانب غرامه بتتبع مكامن المخطوطات العربية ومظانها في جامعات الهند ومراكزها العلمية، فإنه اشتغل أيضاً على تكوين شبكة من العلاقات الثقافية والإنسانية مع الأساتذة والباحثين الهنود، وكان بأريحيته الفيّاضة إزاءهم وصِلاته الصادقة الغامرة معهم موضع ترحيب وقبول ومصدراً لودّ لا ينضب.حين يقول لك أبومحمد (د. عبدالله القتم) إنه زار الهند تسع عشرة مرة قد يأخذك العجب، ولكنك سرعان ما تستشعر مدى إصرار الرجل على ما يؤمن به من هدف، فتصبح المداومة عنده عادة والاستمرار شغفاً فكرياً ومتعة خالصة. وقد تتضاعف لديه هذه المتعة كلما اصطحب معه رفقاء للسفر وراح يشركهم في مشاهداته وسياحته، وتساؤلاته وأمانيه. فأما التساؤلات فهي سبب إهمال الهيئات والمؤسسات العربية لتلك الثروة من المخطوطات الثمينة وتركها نهباً للنسيان والزمن، وأما الأمنيات فتدور حول تهيئة الكوادر الفنية اللازمة لإنقاذ هذه الثروة أولاً، ثم النهوض لاحقاً بما تستحقه هذه الثروة الفكرية من دراسات وبحوث تأخرت كثيراً، ولكنها لاتزال ممكنة ومستحقة.لقد مضى حين من الدهر وفكرتنا عن الدراسة والبحث في البلدان الشرقية كالهند وإيران وتركيا وغيرها من البلاد المجاورة تحكمها الكثير من التصورات الخاطئة والخشية غير المبررة، فتوجهنا بكل ثقلنا نحو الغرب (أوربا وأميركا) حتى في ما يخص الإنسانيات والثقافة الإنسانية. وأعتقد أنه آن الأوان لإحداث لون من التوازن والاعتدال في رؤيتنا لخريطة الثقافة الإنسانية.