ما جاءت الثورة لتضرب الأخلاق الحميدة!!
هذه العناوين مقتطفة من جريدة مصرية عريقة... استوقفتني وأنا أتابع أخبار الثورة السلمية "حرب شوارع وخنادق في بلطيم وسوق الثلاثاء- الأمن يحبط محاولة لقطع الطريق- إصابة ضابط شرطة و9 أشخاص في تجدد معارك بين قريتين بسوهاج- بسبب معاكسة فتاة: مشاجرة وإطلاق أعيرة نارية أمام سينما التحرير بالدقي- بلاغ كاذب بقنبلة داخل فندق شهير بمصر الجديدة يثير الذعر- عامل يثأر لمقتل والده بعد 15 عاما بالقليوبية...". ومن المؤكد أنني وقبل أن أنتهي من هذا المقال ستحمل لنا الصحف المزيد من هذه الأخبار!! السؤال الذي يدور في رأسي... هل هذا ما كان المصريون يصبونَ إليه من ثورتهم السلمية المميزة؟ أم كان المصريون يخفون هذه السلوكيات وراء روحهم المرحة والطيبَةِ المتناهية على مر العصور؟
لا أظن أن هذه من سمات الشعب المصري الذي أعرفه أكثر من أي شعب عربي آخر، وقد شربت من ماء نيله وعشت بينه أجمل سنوات عمري طالبا للعلم، ومن بعدها زيارات وتواصل مازال قائما حتى الآن مع أصدقاء أعزهم وأحبهم. ليس هذا السلوك من طبيعة الشعب المصري الذي قدم الكثير للقضايا الوطنية العربية، ومد يد العون لشعوب كثير حول العالم في شرق آسيا وفي إفريقيا وغيرها. هذا الشعب هو الذي منح الإنسانية أقدم حضارة وأسماء من المبدعين والعلماء الأفاضل الذين أثروا الحياة بإبداعاتهم يتميز عن كل الشعوب العربية، بل شعوب العالم بروحه المرحة وسماحته حتى وهو في أشد حالات المعاناة المعيشية اليومية التي ترهقه وأرهقته فإن "النكتة والتعليق المرح"... تسبق ردة الفعل وكأنه يداوي معاناته بالسخرية!! ولا أتصور أن هذا الانفلات في القيم وهذه الجرائم بهذا الحجم غير المألوف التي تتصدر الأخبار هي في أصل التركيبة المصرية، بل هي ظاهرة عابرة، فهي موجودة في كل شعوب الأرض وعلى مر العصور، ولكن مساحتها اتسعت في غياب شرطة قوية في وجود نظام جديد، يعكف على بلورة هيكل ملائم للحياة فيما بعد الثورة مما ساعد على تلك الثغرات القائمة ليعبر منها غير المنضبطين من أصحاب السوابق الذين مازالوا فارين من وجه العدالة. من المعروف أن الشعوب حين تمر بأزمات وتزداد الضغوط عليها وتصبح عاجزة عن تحقيق أقل القليل من الأمنيات في العيش الكريم ويزداد الاحتقان تصاب النفس بالإحباط الذي يقودها إلى مثل هذا السلوك، فيتولد منه الانفجار الذي، وبكل أسف، جاء على شكل اعتداءات وتجاوزات وجرائم. مثل هذه الحالات حين تتصدر الأخبار ويتم تناقلها بسرعة البرق في وجود الوسائل التقنية والفنية المعينة إلى أطراف الكون، فإننا لا نحسن الظن كثيرا في نوايا بعض وسائل الإعلام، وهي تتناقلها بالتفصيل الممل، فمازال الوقت مبكرا حتى تتيقن بعض مخلفات النظام البائد من "الفلول" أن زمن "البلطجة" قد ذهب إلى غير رجعة، فالزمن غير الزمن ولا تشابه بين التاريخ القريب وما جاء به من ثورات في الماضي وبين هذه الثورة السلمية والحقيقية. ولعل البعض محق حين يقول إن "الربيع العربي" هو أول فعل شعبي حقيقي للحصول على الحرية بعد أن جاء "العسكر" بالثورات أو "الانقلابات" على ظهور الدبابات، وجثموا على صدور الشعوب لسنوات طويلة، فكانت الثورات نتيجة حتمية بعد أن طفح الكيل من جبروت "ثوار الأمس... جلادي اليوم!!". نعم... مضت أشهر على نتائج طيبة للثورة المصرية وكان الجميع في حاجة للتدقيق في النتائج التي أوصلت رموز الفساد من أعلى الدرجات وزمرتهم إلى قاعة المحكمة، وهي أمنية شعبية طال انتظارها وكثر التشكيك فيها مع بداية الثورة إلى أن شاهدنا بالصورة، وسمعنا بالصوت بعض جلسات المحاكمات التي جعلتنا أكثر اطمئنانا وثقة بأن الوقت كفيل باستعادة زمام الأمور في كل نواحي الحياة، وخاصة أن جميع الأحزاب والتجمعات أدركت أهمية العودة للعمل والمحافظة على ثروات البلاد في نفس الوقت الذي تسير فيه المطالب الجماهيرية في صف مواز. وفي نشر العديد من التصريحات لقيادات التجمعات والأحزاب حول القوانين وترتيبات الانتخابات القادمة نجد روحا جديدة قد بدأت تسري في الحياة السياسية بحثا عن مكان للرأي الحر دون ضغوط أو ابتزار من أي جهة، ولا شك أن الروح المرنة ولا نقول الضعيفة والتي تميز الحكومة المؤقتة هي أحد الأسباب التي تجعل المراقب مطمئنا إلى أن سفينة الثورة في بحرها الهادر سوف ترسو على رصيف الوفاق مهما اختلفت التوجهات، فهي أيضا تصب في المصلحة العامة ومازال الشباب يرابطون في ميدان التحرير، وهم يراقبون المسار بعيون يقظة. ولن يرضى هذا الشعب الطيب أن تصبح "البلطجة" منهجا للحياة الجديدة، والوقت كفيل باستتباب الأمن وعودة الحياة إلى طبيعتها. * كندا