الأدب والهندسة
ما الذي يجمع الوردة بالعطر، وما الذي تهمس به النار لرغيف الخبز، وما تراها توشوش الريح بورق الدفلى، وأي رسالة تحملها موجة هادئة لرمال الشاطئ؟ تزاحمت هذه الأسئلة في رأسي، حين ظل يتردد السؤال: "ما الذي يجمع الأدب في الهندسة؟". بتاريخ 10 مايو الفائت، كان لي لقاء مع طلبة جامعة الخليج، ويوم 31 منه كان لي لقاء آخر مع الزملاء المهندسين في جمعية المهندسين الكويتية، وفي كلا اللقاءين برز السؤال حول علاقة الأدب بالهندسة، وقد احتل مساحة لا بأس بها من النقاش. ولأن شيئاً من هذا السؤال ظل يلاحقني في أكثر من مناسبة ولقاء، فإنني أقول:
بدأت علاقتي المبكرة بالأدب قارئاً وسحرتني القراءة بعوالمها الملوّنة، وحملتني على بساطها لزيارة بلدان لم أحلم بزيارتها، ومقابلة شخوص ما تصورت نفسي يوماً أقف أمامهم، أصيخ السمع لتلاطم أفكارهم، وأخوض معهم في غمار مغامرات حياتية لاهبة. القراءة، كانت ولم تزل، نافذتي المشرعة على العالم الإنساني الجديد والمتجدد، وزاد يومي الطازج والشهي، وهي قبل هذا وذاك معيني المخلص على رحلة الحياة بدروبها العثرة. في منتصف السبعينات دخلت إلى كلية الهندسة والبترول في جامعة الكويت، وكنت أحمل عشق الكتابة الأدبية في قلبي، وبقيت طوال فترة دراستي الجامعية أنشر مقالاتي وقصصي القصيرة في المجلات والجرائد الكويتية والعربية. وحين تخرجت مهندساً مدنياً عام 1982، التحقت بمواقع عمل المشاريع الإنشائية، ومعي كان ولعي وعشقي للقراءة والكتابة والحياة. مواقع العمل الإنشائي في الكويت، وفي كل مكان، تحمل من العلم والخبرة والقسوة والمعاناة والألم والحلم بقدر ما تحمل من العطاء والتعمير والحياة. لذا نثرتُ على أرض مشاريعها قرابة العقد ونصف العقد من عمري، وكنتُ طوال تلك المدة مخلصاً لحياتها، متفكراً وناظراً في حيوات من يركض لاهثاً على أرضها المحرقة. ولقد وثقت جزءاً من ذلك، ومن سيرتي الذاتية باسمي الصريح، في مجموعتي القصصية الأولى "أبو عجاج طال عمرك" 1992، ورايتي الأولى "ظل الشمس" 1998، وكنتُ في ذلك إنما أردّ بعض دينٍ في رقبتي لصداقات وأحداث وعمرٍ ما كان لي أن أقف عليه لولا مواقع العمل، وعمل المواقع. يوسف إدريس، أحد أهم مؤسسي فن القصة القصيرة العربية كان طبيباً، وزكريا تامر، عبقري القصة القصيرة العربية المعاصرة، بدأ حياته حداداً. وأحد أكثر من أثر في تجربتي الروائية، الكاتب العالمي الأرجنتيني أرنستو سباتو، هو في الأصل عالم فيزيائي، وغيرهم الكثير في الأدب العالمي والعربي من يمتهن مهنة يتعيش منها بعيدة عن الأدب، ويكتب إبداعاً وأدباً في صلب نبض عروق الحياة. في كتابه المرجع "ضرورة الفن" الذي نقله إلى العربية الدكتور ميشال سليمان، يحدد إرنست فيشر، الخطوات التي يسير عليها الكاتب قائلاً: "لكي يصبح الإنسان فناناً، ينبغي له بالضرورة أن يتحكم بالتجربة، وأن يحولها إلى ذكرى، ويحول الذكرى إلى تعبير، ويحول المادة إلى شكل، فليست الأفعال كل شيء بالنسبة للفنان، إذ ينبغي له أيضا أن يعرف حرفته، وأن يحبها، وأن يفهم كل قواعدها، وتقنيتها، وأشكالها، وشروطها التي بفضلها يمكنه أن يروض الطبيعة الشرسة، ويخضعها لقوانين الفن" ص10. الكتابة الإبداعية في محصلتها، هي خلق لحياة فنية تجاور حياة الواقع المعيشي، لكنها حياة مكتوبة بصدق إنساني وفني، يأبى على الذبول، ويبقى يانعاً حاضراً بعد أن تأفل نجمة الحياة اليومية الدائرة. وهذا ما يجعل الفن خالداً، ومؤكد أن هذا ما يستحق أن يضحي الإنسان المبدع من أجله بحياته، فوحدها الكتابة المبدعة قادرة على البقاء بعد أن ينسحب صاحبها من حضن الحياة.