الثاني من أغسطس مرة أخرى!
التواريخ المؤلمة والمحزنة تظل عبئاً ثقيلاً على ذاكرة الشعوب والأمم. وتاريخ 2/8 بات بالنسبة لنا أشبه بالحمّى السنوية التي لا مفرّ منها رغم محاولات الوقاية وجهود التناسي، كأن مرور واحد وعشرين عاماً أو حلول الذكرى خلال رمضان جديران بتمرير وطأة التذكر بأقل المشاعر تسامحاً واستسلاماً.لعل الحديث عن ذاكرة الشعوب يقودنا إلى استقراء أكثر الوسائل والطرق التي تُعتَمد عادة للحفاظ على هذا الإرث، والذي يتكرس وجدانياً ونفسياً من خلال الأعمال الإبداعية والفنية. من منا لا يستحضر الأعمال التشكيلية للفنان الإسباني فرانسيسكو غويا وخاصة لوحته المسماة (الثالث من مايو) والتي تؤرخ للغزو الفرنسي وأعماله الوحشية الدامية؟ أو لوحة (الجورنيكا) لبيكاسو التي تصور قصف الطيران النازي لقرية (جورنيكا) الإسبانية والقضاء على عدد كبير من سكانها؟ من منا لا يتذكر روايات (الحرب والسلام) و(دكتور زيفاجو) و(وداعاً للسلاح) و(ذهب مع الريح)، وكلها تمتاح من ويلات الحروب وآثارها في الوجدان الجمعي.
لا أحد يستطيع أن ينكر تسارع كتّابنا وروائيينا لتوثيق حادثة الغزو عبر أعمالهم المتنوعة، خصوصا أن معظم تلك الأعمال يمتلك مقومات العمل الفني الأصيل والمؤثر. بيد أن هذه الأعمال تظل للأسف حبيسة المحلية الصرفة، تتداولها أيدينا وتعليقاتنا ومنتدياتنا المغلقة على نفسها، ولم تجد لها متنفساً خارج هذه الحدود حتى وقت صدورها وحين كان الحدث لايزال طرياً ونازفا. ويبدو أننا كنا أسوأ محامين لأنبل قضية، حين فشلنا فشلاً ذريعاً في تسويق قضيتنا إنسانياً وفنياً، وفي إيصال صوتنا إلى آذان كانت ومازالت يغشاها الإنكار والجهل وقلوب ترين عليها الغشاوات. ولعل هذا التساؤل حول عدم التعاطف مع قضية بهذا الوضوح جدير بأن يفتح في أذهاننا بعض الكوى المنيرة، ويضعنا أمام محاسبة نفسية لا مفرّ منها. انظروا مثلاً إلى عمل مسرحي شهير يصور ويلات الغزو وهو مسرحية (سيف العرب)، فرغم الكوميديا السوداء المؤثرة التي تسم العمل وتحفره في الذاكرة، فإن كم السخرية والاستهزاء إن لم يكن استصغار وتحقير الآخر المعادي أمر شديد الوضوح. وتلك إحدى السمات النفسية التي نؤاخذ عليها، والتي ربما تفاوتت في الظهور أيضاً في غير هذا العمل المسرحي وتجاوزته إلى بعض الأعمال القصصية.ويخيّل إليّ أن السر الآخر يكمن في كوننا من الشعوب المنكفئة على نفسها أو المنغلقة على خصوصيتها، لدرجة أننا نجد عنتاً شديداً في التمازج الاجتماعي مع غيرنا من الجنسيات، وفي تكوين الصداقات الحميمة أو علاقات النسب والزواج مع إخوتنا في الإنسانية. هذه الفجوة بين المواطن والوافد في مجتمع يضج بمختلف الأعراق والجنسيات، وهذا العنت الشديد في التمازج مع الآخر عززته جملة من القوانين المدنية الصارمة كقانون (الإقامة) لغير الكويتيين بما فيه من ثغرات وجور، وكالتضييق على زوج وأبناء الكويتية المتزوجة من غير كويتي، وكالنظرة المتعالية أو المرتابة للوافدين، وما سوى ذلك من طبائع وسمات نعرفها عن أنفسنا وربما نتحرج في الإفصاح عنها.ويبدو أن عواقب هذا المزاج الاجتماعي المتوتر والمتحفظ قد ساهمت في تصدير صورة نمطية غير مريحة عن الإنسان الكويتي وحرمه من التعاطف والفهم حين كان في قمة محنته وحاجته إلى هذا التعاطف والدعم.وإن كان هناك من أمل في مدّ جسور التواصل مع إخوتنا في العروبة والدين والإنسانية، فليس هناك أقدر من الأعمال الإبداعية بما تؤصله من قيم إنسانية رفيعة وما تنتصر له من قضايا التحرر ورفض الظلم والاستبداد. إن الأمر ليس مجرد إنتاج أعمال فنية وأدبية في لحظتنا الراهنة، بقدر ما هو جهد دؤوب للحفاظ على هذا الإرث وتكريسه كعلامة فارقة لذاكرة تاريخية ممتدة وباقية، فهل نعي هذا النداء؟