كل متابع للوضع السياسي في الكويت مكتشف لا محالة أن التدهور وصل إلى مدى أشعل معه الغضب بعد ركود وأحيا رغبة جادة في الإصلاح بعد أن اعتقدناها رميما، وذلك على الرغم من كل الأموال التي صرفت ولاتزال لتغييب الناس وتمييع غضباتهم، فلا يوجد بلد دستوري متقدم يعطي هذا العدد من الفرص، كتلك التي حظى بها رئيس وزرائنا، لرئيس حكومته، مهما عرف عن هذا الرئيس من طيبة وحسن نية، فالمسألة ليست تقييماً شخصياً لرجل ولكنها حكم على إدارته من خلال نتائج هذه الإدارة، فإذا تدهورت الأحوال، فليس مهماً ما إذا كان شخص رئيس الحكومة هو السبب أو الظروف أو الأشخاص المحيطون به هم المسببون، فالنتيجة الحتمية واحدة، أن يتحمل الرئيس المسؤولية السياسية ويترك مقعده لمن قد تكون حنكته أكبر أو ظروفه أفضل أو حظه أوفر في الإدارة، فرفض التزحزح عن المقعد بحد ذاته إشارة إلى سوء الإدارة، تخطياً للإشارات الأخرى العديدة، ولتغليب أهداف تبتعد عن الإصلاح المنشود.
ومع ذلك، فإن صب جام المشكلة على رأس فرد هو تسطيح وتبسيط لمشكلة أكبر وتحتاج إلى علاج فوري أعمق، فمع الإقرار بالحق غير المنقوص للمعتصمين بالخروج انقلاباً على الركود والفساد الحاليين، إلا أن رفع شعارات إسقاط الرئيس غير مقرونة بمطالب إصلاحية جذرية لن يكون نتاجها إلا تبديل أشخاص دون السياسات.في اعتصام الجمعة 16 سبتمبر الأخير جاء ذكر بعض المطالب التي ستؤسس لإصلاح حقيقي، ومنها إشهار الأحزاب وتوحيد دوائر الانتخابات إلى التطبيق الحقيقي للإمارة الدستورية كما جاء رسمها في الدستور الكويتي، إلا أنه لم يكن هناك إجماع واضح على هذه المطالب (بعض المتظاهرين طالب بأن تتسع دوائر الانتخابات للخمسين)، لم يكن هناك اتفاق في الواقع سوى على مطلب واحد ألا وهو إسقاط رئيس الوزراء، وهو مطلب، على الرغم من أحقيته، فإنه لن يقدم بل قد يؤخر، إن لم يكن مصحوباً بإصلاحات جذرية وحقيقية في سياسات البلد. هذا الاضطراب ظهر جلياً في ندوة التحالف الوطني في 19 سبتمبر ثم اعتصام ساحة الإرادة في 21 منه؛ عندما خلت كلمات النواب تحديداً من المطالب التي تعد هي لبنات الإصلاح الحقيقي، والتي من دونها سيذهب شخص ويأتي آخر، ونحن في ذات الركود الفاسد قابعون. كما أن التناقض بدا واضحاً عندما طالب البعض بحل المجلس وأجزم البعض الآخر بضرر هذا الحل وضرورة استبعاده، ومع أحقية الجماهير الربط بين قضية الفساد الأخيرة "أم 25 مليون" وإدارة الدولة المهلهلة، إلا أن قبولهم بالاستماع لخطب من نواب قبضوا سابقاً، أو ممن تلاحقهم وصمات فساد، أو من المعروفين بتوجهاتهم المناهضة للدستور المدني، خصوصاً إذا ما أخذ بالاعتبار طبيعة التغيير المنشود، هو تراجع عن طريق الإصلاح ومشاركة في تصفية حسابات بين رؤوس كبار ليس المعتصمين في وسطها إلا أداة تستغل وتوجه. إذا كان التحرك شبابيا فيجب أن يعمل المتحركون على الحيلولة دون اختطافه، فهذه الاعتصامات بدأت كتحرك للتجمع الشعبي، لتدخل الجماعات السلفية والإخوانية على خط الاعتصام، ثم يبدأ صوت النداء بالحكم الديني يعلو موازياً الآن لنداء إسقاط رئيس الوزراء، فهل يعي المتظاهرون إلى أين سيقود هذا الطريق؟ وهل فكر الشارع ما الذي سيحدث بعد أن يخلو منصب رئيس الوزراء؟ نحتاج إلى تغييرات جذرية لنأمن نتائج المطالبة الرئيسة الحالية بإسقاط الرئيس، كما نحتاج إلى آلية منظمة للتحرك يكون عمادها الدستور المدني، وإن تم الاتفاق على تنقيحه، وتكون أسسها توحيدا للدوائر وإشهارا للأحزاب وتكون أولى نتائجها ملاحقة قضائية صارمة للفساد ورموزه. أما التظاهرات الحالية، بما فيها من خلع للغترة وشد للشعر وتمطيط للأحبال الصوتية، وبتركيزها على مطلب واحد ألا وهو إسقاط الرئيس فهي تبدو استعراضاَ نيابياً وتصفية حسابات يؤخذ الجمهور في منتصفها. فالواقع يقول إن للنواب القدرة على تجميع القوى وإعلان عدم التعاون مع رئيس الوزراء لإسقاطه، وللمطالبين بحل المجلس، يمكنهم تقديم استقالات ستبعث على الحل دون الحاجة للزعيق في المظاهرات، أما الاحتجاج على نواب السرقات، فهؤلاء ما أوصلتهم سوى أصوات الشعب، فما الحاجة للمظاهرات إذن؟ الحاجة في الواقع ماسة وحارقة، نعم للقضاء على الفساد ونعم لحكومة جديدة برئيس جديد، ولكن هذه المطالب يجب أن تحزم بخيوط متينة من الإصلاحات السياسية السابق ذكرها، ودونها، سيكون التحرك الحالي ما هو إلا حرب تصفية حسابات يتقاذف فيها أقطاب في الأسرة الحاكمة ونواب الجمهور، ويلعبونه كورقة رابحة في صراع قوي كبير، فالاعتصامات مستحقة، ولكن إن لم ترتب وتنظم وتتضح غاياتها وأهدافها من الآن، فقد تكون العواقب أوخم والنتائج أردأ، وسندفع جميعا الثمن غالياً.
مقالات
نريد خارطة طريق
26-09-2011