كانت المقاهي الشعبية منبرا بارزا للنخب الأدبية والثقافية والفنية في العراق منذ نشأتها، إذ كانت تمثل الحياة الاجتماعية الحرة والمفتوحة حيث لا توجد ضوابط أو قوانين على الزبائن، كما كانت مركزا لقراءة المقام والغناء وإلقاء القصائد الشعرية. ومنذ أوائل القرن الماضي شاعت المقاهي في عموم محافظات العراق، وفي العاصمة بغداد، حيث ظهرت أول مرة في عهد الولاة العثمانيين ضمن سياق عفوي ووظيفة لا تكاد تتعدى اللهو والمتعة وقراءة الصحف، ثم تطورت إلى الوظائف الأدبية والفنية والسياسية. وتبقى لشارع الرشيد الذي افتتح في عهد الوالي العثماني خليل باشا عام 1916 حصة الأسد من هذه المقاهي الأدبية الشهيرة، إذ قامت على جانبيه كل من مقاهي: "الشابندر" و"الزهاوي" و"حسن عجمي" و"البرلمان" و"البلدية" والمقهى الفني "أم كلثوم"، وكان شارع الرشيد ومقاهي منطقة (الحيدرخانة) تحديداً، البؤرة التي تنطلق منها تجمعات المثقفين والسياسيين وتظاهراتهم المعارضة. ولعل من أبرز الشخصيات الثقافية التي غذت الحماس الوطني وألهبته مع بدء ثورة العشرين في 30 يونيو 1920 الشاعر والخطيب المعروف محمد مهدي البصير. وفي الثلاثينيات شهد شارع الحيدرخانة نفسه ومقهى "عارف آغا" عدداً من الاحتفالات التي كان يحييها الشاعر معروف الرصافي، لتتحول إلى تظاهرات تخرج من المقهى لتنضم إلى الحشود، يشترك فيها عدد من أبرز الوجوه الوطنية والثقافية في العراق آنذاك. وفي الأربعينيات والخمسينيات توافد على هذا المقهى إلى جانب الجواهري، كمال الجبوري والسياب والبياتي وعبدالأمير الحصيري وسواهم من وجوه الفكر والأدب والإبداع، يتداولون الرأي ويعقدون حوارات في مختلف شؤون الفكر والثقافة. كذلك مقهى "الواق واق" يرجع تأسيس هذا المقهى الذي يقع في منطقة الأعظمية، قرب ساحة عنتر، إلى عام 1946 بعد أن أسهم في تمويله عدد من الفنانين، منهم جواد سليم ونزار سليم وآخرون. ومن الوجوه الثقافية والإبداعية التي ارتبطت بهذا المقهى الشاعر بلند الحيدري والشاعر حسين مردان والقاص والروائي فؤاد التكرلي وشقيقه المترجم نهاد التكرلي والفنان جميل حمودي والقاص عدنان رؤوف وإبراهيم اليتيم وأكرم الوتري. أيضا مقهى الشابندر ويرجع تأسيسه إلى عام 1917 فقد استقبل منذ العشرينيات والثلاثينيات الصحافيين والأدباء والمحامين والباحثين ووجوه المجتمع، ومن رواده حسين جليل وزير العدلية في العهد الملكي والباحث والمحامي المعروف عباس العزاوي. واحتضن هذا المقهى جمهور المثقفين من أدباء وفنانين وصحافيين من مختلف الأجيال، بعد أن هجروا مقهى حسن عجمي، هجرة احتجاجية جماعية، وصار ملتقاهم كل يوم الجمعة من كل أسبوع. أما مقاهي اليوم فقد اختلفت كثيرا وتطورت كثيرا تماشيا مع لغة العصر حيث انتشرت مقاهي الانترنت في كافة أنحاء بغداد والمحافظات، وبذلك اختفت لغة الحوار والنقاش وتبادل الآراء بين رواد تلك المقاهي، الذين يكتفون بالجلوس أمام شاشات الكمبيوتر والتحاور معها صمتا.
Ad