من قتل فهد بورسلي؟ (3 – 3)
ألمحنا سابقاً إلى غموض الأسباب التي قادت فهد بورسلي إلى محنة السجن ومصح الأمراض العقلية، وهذا يعود بالدرجة الأولي إلى تغييب سيرة حياته وحجبها. وما على الباحث والحال هذه إلّا قراءة ما بين سطور الشاعر من شذرات وتلميحات يستشف منها ظلال معانٍ، كقوله مخاطباً عمه عبدالله بن ناصر بورسلي:هلّ النظير الدمع دمٍ تجارى
يا من يكف الدمع والحزن ماجودهايم بهمّ وغمّ ليل ونهارافي مهمه الهيما ولا عنه منشودعنيت للملجا وشفت انحسارامنين ما انصى جدمي الدرب مسدوديا صحةٍ ملجاج جيرة نصارىمن دش به عِدّه من الناس مفقودالفايدة منه دَرَسْت النطاراأسهر وعيني تنزف الدمع وتنودبين البواطن والعجم والمهاراوعنوز وعتوب وقحاطين وهنودلين اهجعوا أحييت ليل السهارى تميت ناطورٍ على البيض والسودهيهات من يَمن ويرقد بداراومقاصره ضجة خلاخيل وقيودمثل الغريب اللي نزح عن ديارامتوحدٍ جني عن البيت مطرودإن المبادرة إلى فتح الصفحات المطوية في سيرة فهد بورسلي ليست من قبيل الفضول ونبش للمسكوت عنه، بقدر ما هي محاولة لرد الاعتبار ومحاكمة ماضٍ لم ننتهِ منه. فهكذا تكون إعادة قراءة حياة الراحلين المؤثرين في مجتمعاتهم. إن إطلالات فهد بورسلي على حياتنا منذ تعاطيه للشعر وحتى اللحظة الراهنة إطلالات ذات حضور غائر في الوجدان الشعبي، تتجلى في جرأته في نقد الظواهر الاجتماعية والعيوب الإدارية في دولة تسعى نحو التحديث والتمدن، وجرأته في التحدث بلسان حال الطبقات الكادحة التي دهمها تحديث الدولة والحراك الاقتصادي والثقافي وقدوم الغرباء، فوقفت على مفترق طرق وأمام متغيرات لم تنصف بساطتها وشظفها وخسرانها أمام الثراء الطارئ الذي لم تنل منه غير قبض الريح:ليت ها النفط الغزيرما نبي النفط ومعاشهأهلها ماتوا عطاشى من الطرافة بمكان أن ما حُجِب من مقطوعات تندرج تحت هذا اللون من النقد اللاذع والتهكم الممزوج بالسخرية وذلاقة اللسان ما تزال تُتَداول شفاهةً ويتناقلها الناس في مجالسهم الخاصة، ويستمعون إليها سراً من أشرطة التسجيل، مستعيدين نكهتها اللاذعة، ومتفكهين بطرافتها و(شذوذها) وخرقها للمعتاد و(اللائق) في لغة القول والخطاب. وهكذا تنساب مجاري هذا اللون من الشعر الشفاهي (الممنوع) لتسكن الوجدان الشعبي المغرق في عفويته وصدقه، متحديةً العرف الأخلاقي في عمومياته، مستجيبة – في لحظة ما – للشغف في التعبير الصادق، وإن جاء هجائياً وبعيداً عن اللياقات. وكما تجلى حضور فهد بورسلي في هذا الحس الاجتماعي اللاذع، تجلى حضوره كذلك في أغاني السامري المتناوحة في مسامعنا عبر الأيام والحقب، والباقية إلى الأبد في الوجدان الشعبي، متبدية في تمايل الصبايا والعجائز – رغم فارق الأجيال – في حفلات الأعراس، وهن يسرحن منتشيات بـ"يا هل الشرق" ، و"يا ناس دلوني" ، و"خاطري طاب من ذاك الفريج"، و"يا زين واصلني من الشباك"... وغيرها من قصائد الشوق والحنين والحب المتكتم والرغبات المؤجلة. وهكذا تأتي وجدانيات فهد بورسلي وتزاوجها مع الموسيقى والرقص التعبيري لتكمل وجهه الإنساني وتسِم حضوره بالديمومة والاستمرار رغم كل شيء.والآن وبعد مرور ما يقارب نصف القرن على رحيل فهد بورسلي، يحق لنا أن نتساءل ألم يأن الأوان للإفراج عن سيرة الشاعر الحقيقية، وإعادة تقييم تراثه الشعري بموضوعية وحياد؟ متمنين على عارفيه ومعاصريه وأسرته الكريمة أن ينهضوا جميعاً بهذا الواجب الذي بات ديناً مستحقاً في أعناقنا لأهم الأصوات الشعرية المؤثرة في تاريخ الشعر الشعبي.(*) من مدونتي عين الصقر