جئت مدينة النجف لملتقى الشعر الثاني. المدينة التي أخرجنا في مطابعها، نحن الجيل الستيني، كل كتبنا الأولى، وكل أعداد مجلة «الكلمة». من الجو رأيت الرمل ولون الطين الجاف يلتصق بجناحي الطائرة. كل حبة رمل تتضح، حين تتسع، على هيئة قبر للأسلاف. كانت الأرض مُحتضنة بذراعي مقبرة «دار السلام».

Ad

أكثر من مئتي مدعو في فندق من الدرجة الأولى. على أنها درجة متواضعة، منسجمة مع الحال العام. والحال العام شاحب الوجه، منهك الكتفين، بفعل وطأة ظرف لا حدود لقسوته. إلا أن الخطوات المُتعبة تغذي السير إلى الأمام. لا تراوح، ولا تتراجع. القائمون على تنظيم المُلتقى الشعري لا يتعاملون مع كمّ، بل يُفردون كل مدعو لاحتضان دافئ خاص به. الشبيبة من الشعراء ونقاد الشعر يعيدون العافية إلى الرأس الأشيب. غياب ثلث قرن من الزمان عن العراق يتلاشى في ثانية، وفي ثانية تنبعث حاجة دفينة في داخلي لحضور مكثّف. كل جلسة استرخاء ندوة صغيرة. فالذين يحيطونك بالرعاية والحب يحيطونك بالأسئلة والرغبة في الحوار. وأنا أجتهد بلا تردد: «يجب أن نحتكم إلى النظر في الداخل. يجب أن لا نأتمن موهبتنا، وعينا، ثقافتنا، وتربيتنا الروحية. كيف يمكن أن نأتمن، ونحن ولدنا ونشأنا وصرنا نكتب داخل نفق مرحلة بالغ العتمة، بالغ الإيهام، وبالغ القسوة في سحق فرادة الإنسان. الدولة الاستبدادية تريد «مواطناً» صالحاً على هواها، لا إنساناً يتمتع بفرادته. الشاعر يطلع من هذه الفرادة ...».

ولكن كيف أجرؤ على الانصراف إلى اجتهادات الثقافة هذه، قبل أن أنصرف بحكم جاذبية غير عقلية إلى «وادي السلام»؟ المقبرة التي لا يحدها البصر، حيث ترقد عظام الراحلين من الأهل، ممن أعرف ولا أعرف. وهل هذه الجاذبية إلا وليدة الفراغ العميق الذي يولده غياب الزمن بجملته!

من يعود إلى وطنه وأهليه بعد غياب ثلث قرن، لا بد أن يقطع زمناً بالغ الكثافة بينه وبين الأحياء ممن يعرف. هذه الكثافة تتجسد في وجوههم وهيئاتهم. حتى لتبدو الأخيرة، بفعل الكثافة، شائهة. ثم تتفكك ببطء لتستعيد إنسانيتها، وحلاوة  ملامحها التي حفظتها الذاكرة. إنها تُقبل عليه مثل الصدمة. وكأنها صدمة الزمن الذي أُهمل في الذاكرة المنسية عن عمد. ومن يحتمل زمناً بهذه السحنة العراقية التي يغطيها سخام الاحتراق، على مدى نصف قرن؟

ولكن ما من زمن يفصل بين العائد وبين موتاه في «وادي السلام». ما من زمن يفصل بين الأحياء وبين الموتى. الزمن يتلاشى هنا، ويحل مكانه العدم، أو الأبدية. والأبدية ليست زماناً. ولذلك ما من زمن فاصل يتكثف، ويقبل عليك في هيئات شائهة، كما حدث مع الأحياء. هيئات الموتى تُقبل عليك، عبر العدم، رائقة صافية. تُشذبها العاطفة والروح، لا الذاكرة.

العودة إلى الأحياء شاقة، وصادمة بفعل الزمن. ولكن العودة إلى الموتى يسيرة رائقة، بفعل تلاشيه.

وقفت على أكثر من مفترق طرق داخل المقبرة التي لا يحدها البصر، أبحث عن مراقد من غادر من الأهل. دلّني ابن أخي، وكان دليلي، عليها بمشقة. هناك جدي، أعمامي، وبعض أبنائهم، وأبناء أبنائهم. وهنا أبي، تحيط به العائلة، وأمي التي تختبئ، على عادتها، في ركن خفي، ضيّق، ولكن ظليل. هجس ابن أخي رغبةً فيّ أن أنفرد بها، فانسحب بعيداً. تأملت وجهها السمح، وداعتها، إشفاقها، وكأنها تتأمل بدورها وطأة زمن ثقيلة على كاهلي. هي التي تنعم بعدمٍ لا وطأة له. قلت لها «أحبك» بصوت مسموع، وانهلّت الدموع عن غير إرادة. وعن غير إرادة اجتاحتني موجة من مشاعر الذنب لم أتبين جذورها. ولكني رأيت ثمارها، وقد تماهت مع الدموع، تتلألأ تحت شمس الشتاء المباركة.