يعود المسافر من إجازته الصيفية ليدخل أتون المعترك الدائر في الوطن، وليحرق في ومضة كل الراحة النفسية التي تنطفئ في غمضة عين حالما تطأ قدمه أرض بلاده، فكل ما دفعه في سبيل الحصول على شيء من الهدوء ولحظات من الصفاء النفسي والعقلي، كلها تذوب في معمعة الوضع الهائج الذي يستقبله منذ لحظة الوصول إلى أرض الوطن، ولينبح في وجهه: تعال خذ ما فاتك، فحصتك من التوتر والقلق والغضب في انتظارك مهما ترحلت وغبت، وحاولت التغاضي والنسيان من أجل قليل من الراحة الهاربة من وجع وضغوط المشاكل الشخصية والعامة، تجد أن الهروب لا فائدة منه، ومفعوله ليس أكثر من مسكن مؤقت، والهموم الكامنة في الانتظار تهد الحيل.

Ad

والسنة هذه على وجه الخصوص كشفت وعرّت كل الزيف الذي ننعم فيه ونعيش تحت مظلته، فمن كارثة فساد الأغذية التي حلت ببلائها على الجميع، إلى فضيحة التحويلات المليونية في حسابات نواب أمة كان من المفروض أنهم يمثلون ضمير الأمة الذين تلاعبوا فيه لصالح منافعهم الشخصية البحتة.

هم كارثة وطنية بحق تهدد مستقبل أجيال وأجيال قادمة من أولادنا وأحفادنا يلعبون بمقدرات مستقبلهم وحقهم في هذا البترول الناضب.

الإحساس بهذه الكارثة التي بدأت تتكشف عن خفاياها وما أدراك ما خفاياها، أصابت الجميع بالهلع، حالة من الخوف والغضب العارم انتابت الجميع، فلأول مرة يدرك فيها الشعب بكل فئاته وطوائفه- ما عدا الحرامية منهم وأصحاب الذمم الفاسدة- مقدار الفساد الذي يحيط بهم ويتغذى على مقدرات وطن جعلوا منه ألعوبة أو عروسة ماريونيت تلاعبها وتحركها أصابعهم الخفية.

الكل خائف وقلق، متوتر وغضب، حالة من الغليان العام تسود النفوس، فما الذي يجري في الكويت؟

وهل الكويت كما يتخيل هؤلاء الذين ينهبونها حالة وطن مؤقت يجب أن يُنهب ويُستغل وتصفى موارده قبل نضوبها واختفائها من الوجود؟

هذه الفرضية يبدو أنها أصبحت هي القاعدة وليست الاستثناء، أو مجرد حالة وهم أو تخيل أو افتراض لوجود صغير يستكثر عليه كل من حوله أن يعيش في رفاهية وأمان وسلام.

الوضع بات على كف عفريت يتلاعب به كما يحلو له وكما يريد، مستقبل غامض، يصعب التكهن بمعرفة ملامحه، وقراءة فواتحه، وفك طلاسمه وألغازه، فالمعرفة باتت لغزا من الألغاز التي لن يستطيع فك شفرتها إلا عبقري أو عفريت أو ساحر.

نريد أن نطمأن ونشعر بالأمان والاستقرار، وأن نتأكد من وضع وطننا ومن واقعه ووضعنا فيه، وهل هو حقيقة وطن زائل، ونحن فيه لسنا إلا مسافرين في رحلة مؤقتة عابرة في زمن واهم خادع، وإننا لسنا إلا مخدوعين بوجود هلامي كاذب، لأننا عابرون في وطن ليس إلا سفينة لا نعلم ولا ندري أين ستستقر، وأين سترسو ان كان حقيقة موجودا هذا المرسى، أو أنها ستبقى في حالة ضياع أبدي، هي وركابها الفزعون الذين لا يعرفون أي نهاية تنتظرهم وأي مصير متوقع لهم؟

وهل سيبقون عاجزون إلى الأبد، قانطون ويائسون ومستسلمون لحال الضياع والتيه حتى يبلعهم التيار وتلتهمهم اللجة العاتية الهائجة القادمة والآتية في المستقبل القريب، أم أنهم سيصحون من نوم أهل الكهف وينهضون من سباتهم العقيم ليواجهوا مصيرهم بإرادة من يريد أن يعيش ويحيا هو وأولاده وأحفاده في وطن ثابت ومستقر في حقيقة وجود دائم وآمن ومطهر من الفساد ومن المفسدين؟

المستقبل في خطر، وفي غاية الغموض، وعلى كل من يعيش على أرض هذا الوطن أن يدرك خطورة هذا الانفلات الفسادي الكامل الذي بات السمة العامة التي تسيطر على كل شيء في هذا الوطن، وترسخه كقاعدة عامة وليس كحالة استثناء فردية شاذة، الفساد بات هو القاعدة الآن وما عاد للشرف أو النزاهة أو للأمانة أية قيمة أو أهمية أو معنى.

فهل سيصبح الفساد هو المكرس ويبات هو ضمير الأمة وهو الأساس الذي يُبنى عليه المواطن والمواطنة والوطن؟

وفي هذه الحالة، هل سيبقى هناك وطن؟

أم أنه سيبقى متلاعبا به على كف عفريت؟