سيرة حياة
في المصطلح النقدي هناك فرق بين (السيرة الأدبية) و(الترجمة الذاتية). (فالسيرة الأدبية) هي ما ينهض به الكتّاب والمؤلفون لتسجيل سير الأعلام والنجوم المؤثرين في شتى مناحي الحياة كالساسة والفنانين والأدباء. ومن أمثلة ذلك كتاب (جبران خليل جبران) الذي ألفه ميخائيل نعيمة، و(الجنوبي) لعبلة الرويني التي تحدثت فيه عن سيرة حياة أمل دنقل، وسوى ذلك مما كُتب ويكتب حول تراث الشعراء والأدباء والفنانين. أما (الترجمة الذاتية) فتعني الكتابة عن الذات ورحلة الحياة بقلم الشخص نفسه وعن نفسه، كما فعل طه حسين في (الأيام) وتوفيق الحكيم في (يوميات نائب في الأرياف) وفدوى طوقان في (رحلة جبلية رحلة صعبة) وجبرا إبراهيم جبرا في (غربة الراعي) وغيرها من الأمثلة. بيد أن موضوع التفريق بين المصطلحين في الفن المرئي عبر المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية يصبح هلامياً ومختلطاً. فبغض النظر عن أهمية الشخصية المعنية في الفيلم أو المسلسل ومدى تأثيرها في المشهد الحياتي العام، تدخل أمور وعناصر أخرى فنية ذات صلة بالفن المرئي؛ كالسيناريو ولغة الكاميرا والقدرات الفنية للممثلين والديكور... إلخ. ومن هنا فنحن بإزاء عمل آخر لا صلة له بالمصطلح النقدي للترجمة الذاتية أو السيرة الحياتية كجنس أدبي. في المسلسلات سير حياتية لأدباء وفنانين مشوبة بالكثير من اللغط والجدل. فأنت لا تعلم إن كان صاحب السيرة قد كتبها بنفسه أم كُتبت له، ناهيك عن الاعتراضات وصنوف النقد حول حقيقة الأحداث، ثم تأتي مسألة المسموح وغير المسموح تناوله من مفردات هذه السيرة. ولعله بات من الأمور المتداولة في الصحافة ما نراه من تراشق في البيانات الصحفية حول مسائل الخلافات في الرأي حول تقييم العمل، فضلاً عن دعاوى التقاضي وما يسمى بحقوق الأهل والعائلة في إقرار أو رفض ما يُعرض من قصص حياة أقاربهم وذويهم. الفني السينمائي يظل عنصر الصدق أمراً اجتهادياً، قد يقترب فيها المؤلف من الحقيقة، وقد يحوم حولها، وقد يجانبها من حيث لا يعلم. فالتأليف في هذا الحقل يبقى عملاً من أعمال الذاكرة وفورة من فورات العاطفة واجتهاداً في تنسيق المعلومات والذكريات، وهو في النهاية رأي ورؤية شخصية محضة. ونحن نعرف أن الذاكرة انتقائية ومراوغة، والعاطفة لا تخلو من الهوى والميل، والمعلومات عن حياةٍ بين مدّ وجزر ورفع وخفض لن تكون بدقة المعادلات الرياضية أو نظريات الفيزياء، أما الرأي الشخصي فهو مجرد رؤية للعالم من زاوية واحدة. إن صعوبات الكتابة في السير الذاتية لا تقف عند هذا الحدّ، وإنما تتمثل الصعوبة أيضاً في كونها تمتدّ نحو شبكة معقدة من العلاقات والشخصيات الموازية والظروف الأخرى التي لا بد وأن تتراءى في المشهد النهائي لحياة الشخصية المعنية. وهذا قد يكون مدعاة للحرج والمسؤولية المضاعفة. وكم من كتابات حول السير الذاتية لم ترَ النور بسبب هذا العنصر المقلق. ورغم كل تلك التحديات تبقى السيرة الأدبية أو الترجمة الذاتية من أكثر الأجناس الفنية تشويقاً وقيمة، فهي إلى جانب تحقيقها الإشباع النفسي لكاتبها وإعانته على تفريغ شحنات القلب والعقل والبصيرة، فإنها أيضاً تمتع قارئها متعة قصوى وتشبع فضوله وشغفه باكتشاف الخفايا والأسرار. ولعل عثور القارئ على حياة موازية لهوامش ومفردات من حياته هو يكمل رسالة هذا اللون من الكتابة الاعترافية المؤثرة، ويجعل من القارئ شريكاً حميماً في النص وفي الحياة.