بعد أن تراجع حجم التدخل العسكري الأميركي والبريطاني في جنوب العراق منذ عام 2009، توقف الجيش الأميركي ببساطة عن أخذ المبادرات الجديدة لضمان أمن حدود البلد، ولم يُنفَّذ شيء من خطط إعادة انتشار القوات العسكرية، أو إنشاء حواجز جديدة.
في الأسبوع الماضي، أدلى الرئيس باراك أوباما بالتصريح الآتي: "سيعبر آخر جندي أميركي الحدود من العراق، وهو مرفوع الرأس وفخور بنجاحه، وهو مدرك أن الشعب الأميركي سيتوحد لدعم قواتنا العسكرية. لهذا السبب، ستنتهي الجهود العسكرية الأميركية في العراق".لكن لن يترافق رحيل الأميركيين مع نهاية الصراع الذي يواجه الجيش العراقي، بل مع بداية ذلك الصراع، لا يزال الجيش العراقي منقسماً بسبب الصراعات القائمة بين الضباط القوميين والعناصر الدخيلة المدعومة من إيران، كما يشهد هذا الجيش شللاً في وظائفه بسبب السياسة الشائبة المعتمدة في بغداد، وتراجع الدعم العسكري الأميركي. إذا أراد العراق التحول إلى بلد قوي وآمن يستطيع إدارة شؤونه بنفسه، فسيتوقف كل شيء على قدرة الجيش على تجاوز هذه العوائق كلها.في الفترة الأخيرة، أمضيتُ ثلاثة أسابيع في مقر الجيش العراقي في جنوب العراق، فلابد من توخي الحذر عند استخلاص الاستنتاجات عن هذا البلد الشاسع والمتنوع انطلاقاً من ملاحظات جُمعت في واحدة من مناطقه الكثيرة، لكن يحتل المشهد السائد في جنوب العراق تحديداً أهمية كبرى في هذه الفترة.فالجزء الجنوبي مجاور لإيران، وهو الجزء العراقي الذي تركز عليه طهران طموحاتها بسبب ارتباطها سياسياً ودينياً واقتصادياً بالفئات الشيعية الطاغية في تلك المنطقة حيث يسهل أن نشعر بالنفوذ الإيراني. كان مقر الجيش العراقي في الجنوب ينشط بشكل مستقل أيضاً عن الدعم الأميركي أو البريطاني منذ تراجع عدد القوات الأجنبية في عام 2009، ما جعل من هذا الفرع العسكري صورة مصغرة عن مستقبل الجيش العراقي بعد رحيل الأميركيين نهائياً.ربما شكل إعلان أوباما الأخير إنجازاً مهماً بالنسبة إلى شريحة واسعة من الأميركيين، لكن من وجهة نظر القادة الأمنيين العراقيين، اختفى الوجود الأميركي من معظم مناطق بلدهم منذ فترة طويلة، وقد انتهت صلاحية الجيش الأميركي فعلياً منذ أن صادقت الحكومة العراقية، في 16 نوفمبر 2008، على الاتفاق الأمني الذي عُقد بين الولايات المتحدة والعراق في عام 2008 لتحديد جدول الانسحاب الأميركي. منذ ذلك التاريخ، وجدت القوات الأميركية والعراقية صعوبة أكبر في اعتقال أو حجز أو محاكمة المشبوهين العراقيين لأن مذكرات التوقيف العراقية كانت تحمل ثقلاً قانونياً معيناً. صحيح أن الوجود الأميركي تراجع تدريجاً، لكن تراجعت في الوقت نفسه أهمية حضوره الميداني في القواعد العسكرية بالنسبة إلى العراقيين بسبب إبطال قدرة الأميركيين على التأثير بالوضع الأمني ميدانياً على المستويين القانوني والسياسي.أدى تلاشي الوجود الأميركي بوتيرة تدريجية إلى تعرض قادة الجيش العراقي لهجوم سياسي لاذع، وانطلاقاً من بعض المقابلات التي أجراها ضباط عراقيون، تبرز "حرب الظل" القائمة ضمن قطاع الأمن العراقي عشية رحيل القوات الأميركية، فنجد من جهة طبقة المسؤولين السياسيين العرب الشيعة الذين عُيّنوا في جميع قطاعات المؤسسة الأمنية منذ تشكل حكومة يطغى عليها الشيعة في بغداد. كان عدد كبير من هؤلاء الأفراد أعضاءً في فيلق بدر، وكالة أنشأها الحرس الجمهوري الإسلامي الإيراني لتجنيد العراقيين الشيعة المنفيين ضد جيش صدام حسين، أما الأعضاء الآخرون، فهم من داعمي السياسي الشيعي المتشدد مقتدى الصدر أو من المنشقّين عن حركته، إذ تعارض هذه الجماعات جميع أشكال النفوذ الأميركي على الحكومة العراقية وقطاع الأمن، وتدعم دور رجال الدين ضمن نظام حكم مشابه للنظام السائد في إيران.وفق خطاب تلك الجماعات، لا تُعتبر الاعتداءات ضد المواقع العسكرية الأميركية أعمالاً إجرامية، لكن تهتم هذه الجماعات حصراً بملاحقة عناصر نظام البعث سابقاً والإرهابيين المنتمين إلى تنظيم القاعدة.من جهة أخرى، نجد طبقة القوميين العراقيين التقليديين الذين يشكلون حتى الآن نسبة مهمة من قيادة الجيش العراقي في الجنوب. حارب عدد كبير من الجنرالات الراهنين في الحرب الإيرانية العراقية الطويلة والدموية، وبسبب خدمتهم في جيش صدام، يسهل أن يتم استهدافهم من أجل التحقيق معهم بسبب الاشتباه في ارتباطهم بنظام البعث.قبل انتخابات مارس 2010، أصدرت "لجنة اجتثاث البعث" لائحة بأسماء أكثر من 70 ضابطاً كبيراً وُجّهت إليهم تهمة الانتماء إلى حزب البعث، فكان هؤلاء الضباط يكرهون وجود ضباط "الدمج": مسؤولون سياسيون يتم تعيينهم من الأحزاب الإسلامية وهم يحصلون على الرتب العليا منذ عام 2003 من دون أن يتخرجوا من الأكاديمية العسكرية.نظراً إلى المشكلة الأمنية التي طرحها هؤلاء الدخلاء الجدد، تكاتف الضباط المخضرمون وشكلوا قيادة متماسكة تتألف حصراً من أصدقائهم القدامى في الحرب، فهمشوا بذلك ضباط "الدمج"، وكلفوهم بمهمات محدودة وشجعوهم على أخذ فترات إجازة مطولة.يتخذ هؤلاء الضباط القوميون موقفاً معقداً من الولايات المتحدة، إذ لا يمكن وصف مشاعرهم بالحب ولا الكره، وتعليقاً على هذا الموضوع، يقول أحد الضباط العراقيين: "حين أمارس مهامي كجندي عراقي، من واجبي أن أعمل مع الأميركيين، لكن حين أكون في إجازة، كشخص مدني عادي، فأنا لا أستطيع النظر إلى أي مركبة أميركية لأنني أشعر بغضب شديد تجاه الأميركيين".لكن يدرك الضباط القوميون أن الولايات المتحدة والعراق يتشاركان المشكلة نفسها: النفوذ الإيراني في المنطقة.يجب أن يكون الضباط العسكريون العراقيون حذرين في دعمهم للجهود العسكرية الأميركية ضد المقاتلين المدعومين من إيران، لكن وراء الكواليس، غالباً ما تكون تحركاتهم محورية لتعزيز فاعلية العمليات الأميركية ضد أسوأ أنواع المعتدين.لكن لسوء الحظ، يبدو أن الجيش العراقي- مع الدعم الأميركي أو من دونه- ليس معداً لمواجهة استمرار وجود الميليشيات التي تدعمها إيران في العراق، وعلى الرغم من حصول بعض التدريبات لتمكين القوات المسلحة العراقية من حماية البلد من التهديدات العسكرية الخارجية، لا تزال مهمة الجيش اليومية تتمحور حول إعادة إرساء الأمن في البلد. تضم بعض المحافظات حتى الآن شبكات مكثفة من حواجز التفتيش تحت إشراف جنود عراقيين، لكن لا يحب الجيش الاضطلاع بهذه المهمة ولا يريد تنفيذها، ولكنه عالق في هذا الدور بسبب قلة عدد قوات الشرطة شبه العسكرية أو بسبب قلة ثقة الجيش أو الحكومة بتلك القوات.ما يزيد الوضع سوءاً هو أن تراجع التدخل الأميركي في مجال الأمن العراقي أدى إلى جمود المبادرات الأمنية الجديدة، فسرعان ما تفاقم هذا الوضع بسبب الشلل شبه التام في السياسة الوطنية العراقية وعجز الحكومة عن تعيين وزراء أمنيين يملكون صلاحيات كاملة خلال الأشهر الأربعة عشر الأخيرة، وبينما يؤدي رئيس الحكومة نوري المالكي دور وزير الدفاع ووزير الداخلية الذي يُعنى بتصريف الأعمال كافة، لا يمكن لأي جهة رسمية اتخاذ أي مبادرة فاعلة.بعد أن تراجع حجم التدخل العسكري الأميركي والبريطاني في جنوب العراق منذ عام 2009، توقف الجيش الأميركي ببساطة عن أخذ المبادرات الجديدة لضمان أمن حدود البلد، ولم يُنفَّذ شيء من خطط إعادة انتشار القوات العسكرية، أو إنشاء حواجز جديدة، أو تأسيس أنظمة إلكترونية جديدة للمراقبة، وذلك بسبب غياب التمويل وقلة تعاون حكومة بغداد.وحتى على مستوى الاستراتيجية المتّبعة، يصعب رصد أي مؤشرات على حدوث تطور ملحوظ، ففي السابق، كان مهندسو الجيش الأميركي يستطيعون نقل جميع حواجز التفتيش المحصّنة من أحد أجزاء شبكة الطرقات إلى جزء آخر، وذلك للتكيف مع النشاطات القتالية المستجدة، أما الآن، فتقبع حواجز التفتيش في مكانها منذ أن أقامها الأميركيون في تلك المناطق، حتى لو أصبحت تلك المواقع غير منطقية في ظل الوضع الراهن.من دون الاستعانة بالمستشارين الأميركيين، عاد الجيش العراقي إلى عاداته القديمة، فقد أصبح أقرب إلى القوة التفاعلية التي تنتظر أن يكشف المعتدون عن أنفسهم، قبل أن تعتقل جميع الشهود والمذنبين المحتملين، لكن لا تتعلق المشكلة الأساسية بواقع أن الجيش يفتقر إلى الزخم والقوة، إذ يضم كل فرع في الجيش العراقي عدداً من وحدات المغاوير المتأهبة التي تستطيع تحضير الكمائن والعمليات الهجومية باحتراف، بل تكمن المشكلة الفعلية في واقع أن المقاتلين الجنوبيين المدعومين من إيران أو المرتبطين بحركة الصدر يتمتعون بالحماية السياسية من الأشخاص أنفسهم الذين يديرون وكالات الاستخبارات المدنية والشرطة في العراق.لهذا السبب، يتحمل تنظيم "القاعدة" مسؤولية جميع الحوادث الأمنية التي تحصل في الجنوب؛ حتى إن المحللين في الاستخبارات العراقية لا يستطيعون المجازفة بإعلان الأسماء الحقيقية للجماعات المدعومة من إيران مثل "كتائب حزب الله" و"عصائب أهل الحق".نتيجةً لذلك، تضعف قدرة الجيش على قمع المقاتلين، فمن المعروف أن المعلومات الاستخبارية عن المقاتلين ضئيلة جداً، كما أن العمليات العسكرية ليست فاعلة لأن المشتبه فيهم يحصلون على إنذار مسبق بحصول اعتداء ضدهم، وغالباً ما يتم إطلاق سراح المعتقلين قبل إخضاعهم للاستجواب بسبب ضعف السلك القضائي أو سهولة ترهيب الشخصيات السياسية والقضائية.أجبرت هذه العوامل الجيش الأميركي في العراق على استئناف الدوريات الأحادية الجانب وعمليات الاعتقال بعد مقتل 14 جندياً أميركياً على يد جماعات مقاتلة شيعية في العراق في شهر يونيو من عام 2011.مع اقتراب موعد الانسحاب الأميركي، لا يزال العناصر القوميون في الجيش العراقي يأملون في نشوء بلد عراقي قوي ومستقل، ولكنهم مقتنعون بأن بغداد لن تستطيع الخروج من الجمود الذي تقبع فيه من دون حدوث زلزال سياسي كبير. في هذا الإطار، قال ضابط شاب: "سيستعيد العراق نفوذه لمجابهة المد الإيراني. إنه المسار الطبيعي للوضع"، لكن يشعر العسكريون بالاستياء بسبب خضوع العراق للمصالح الإيرانية، وذكر الضابط الشاب نفسه أن الجيش أُحبط فعلاً بعد تأجيل عمليات شراء الطائرات المقاتلة "إف-16" وتقليص حجم الصفقة بأمرٍ من البرلمان العراقي في ربيع عام 2011.ويتذكر الضابط أن عضواً من الحرس الثوري الإيراني هاجم تلك العمليات على التلفزيون، فصدر قرار البرلمان في اليوم التالي.بالنسبة إلى شريحة واسعة من الضباط، يكمن الحل بظهور حاكم استبدادي جديد على ألا يكون شبيهاً بصدام حسين السني الذي ينتمي إلى خلفية قبلية ضيقة، بل يجب أن يكون حاكماً قومياً شيعياً أو غير طائفي يستطيع التصدي لأعداء العراق الخارجيين والمحليين.قد يقول البعض إن المالكي هو الرجل المنشود، لكن جاءت الأزمة السياسية الراهنة لتثير الشكوك بصحة هذا الخيار، إذ قال رائد في الجيش: "الأسلحة والتدريبات ضرورية، لكن في المقام الأول يجب أن يعالج رجل نافذ الوضع السياسي، وعندئذٍ، يمكن أن ينشأ جيش قوي".تشكل أزمة الجيش العراقي معضلة حقيقية، فقد طرحت تاريخياً تهديداً على الحكم الديمقراطي والأقليات العراقية، وقد يتكرر الأمر نفسه الآن، لقد أثبت الجيش أنه إحدى المؤسسات الحكومية الأقل عرضة للنفوذ الإيراني، وهو سيتابع على الأرجح تطبيق النهج نفسه. صحيح أن المرحلة المقبلة ستكون صعبة، ولكن الروابط التي أنشأتها الجيوش الأميركية والعراقية في ساحة المعركة تستحق القتال في سبيلها.* مايكل نايتس | Michael Knights
مقالات
أهلاً بكم إلى حرب الظل !
28-10-2011