قرأت ذات مرة تقريرا عن أحد العاملين في مجال الغوث الإنساني، وهو تابع لإحدى المنظمات العالمية، يقول كاتب التقرير، إنه ذهب ورفاقه إلى منطقة نائية شمال غرب أوغندا، - إن لم تخني الذاكرة- بهدف حفر الآبار هناك، ففوجئ بأن نصف الذين يقطنون في هذه المناطق يحملون هواتف نقالة، «موبايل» وبأحدث الموديلات، في الوقت لذي يتضورون فيه جوعاً. مبديا تعجبه من هذا المسلك، أو الفهم الحضاري للأمور، بل الأعجب من ذلك كيف استطاعت شركات الهواتف النقالة التي تعمل بالاتفاق مع الحكومات إيصال التغطية الجوية لهذه لمناطق، دون أن يصلها حتى الماء أو الطعام.

Ad

يغيب عن بال هذا الشخص أو غيره من الذين يعيشون في مدن متقدمة ويذهبون للإغاثة في المناطق المنكوبة الدور الذي تقوم به الشركات الكبرى في الترويج لبضائعها، أو حتى في غسل أدمغة هؤلاء، وغرس مفاهيم خاطئة، بحيث يتصور أحدهم أن شراء جهاز إلكتروني حديث لا يجيد حتى استخدامه، هو بالدرجة الأولى، من حيث الأولوية، وربما تتقدم هذه الأجهزة ذات العلامات الفائقة على مسألة تعليم الأبناء، أو محو الأمية، أو توفير الماء، لضمان أقل قدر من الحياة.

كان على هذه المنظمات وهي تعمل في مجال الغوث والإعانة، أن تحمل معها مرشدين نفسيين، بلغة هذه الشعوب لتوعيتهم، وإرشادهم إلى أولويات الحياة بدلا من تركهم فريسة لبريق الإعلان التجاري، ومن ثم الوقوع بين أنياب الشركات الكبرى عابرة القارات، نقول ذلك بعد أن أدركنا الفساد المستشري الذي تعيش فيه حكومات هذه الشعوب، وفشلها في تحقيق الأمن الغذائي لشعوبها، فالمجاعة في القرن الإفريقي أصبحت هماً يؤرق الناس في جميع بقاع العالم، في الوقت الذي يتقاتل فيه أمراء الحرب في الصومال، ويتوزعون الغنائم بينهم، والأمر الأكثر إيلاما ما ورد في تقارير أخرى عن أن دولا في وسط إفريقيا ربما هي مهددة بالمجاعة في السنوات القادمة، ومن بينها النيجر، وتشاد، ومالي.

إن قياس معدل تساقط الأمطار في المناطق الريفية النائية بالتزامن مع قياس الكثافة السكانية، وموت أو هلاك الماشية، إن حسبة بسيطة من هذا المنوال، ربما يجعل بمقدورنا تدارك خطر المجاعة قبل وقوعه، وإصلاح ما يمكن إصلاحة، بدلا من الانتظار حتى وقوع الكارثة، ومن ثم تصوير الناس، وتعميم الفضيحة، بعد أن يموت أكثر من نصف السكان.

تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 75 في المئة من فقراء العالم يعيشون في المناطق الريفية، ذلك يعني أن النسبة الضئيلة المتبقية هي التي تنعم برفاه المدينة، وبالتواطؤ مع الشركات الكبرى عابرة القارات، وعلينا التذكر أن دولا بكاملها ربما تعيش حياة الريف، حتى وإن تمتعت بمسميات الأوطان، وبالشكل الصوري للحكومات، أو الوزارات، وما شابه.

وأما الشركات التي توصف بالكبرى فحكايتها حكاية، إذ إن ناتج بعض هذه الشركات العملاقة يقدر بمئات المليارات، ويفوق الناتج القومي لكثير من دول العالم الثالث، والحديث هنا عن هذه الشركات بشتى صنوفها: السيارات، الإلكترونيات، الملابس، الأغذية، البتروكيماويات، ووجود مثل هذه الشركات جعلنا هنا نتمسك بمقولة إن هذا الذي يقتنيه فلان «ماركة» بمعنى أن المنتج تابع لإحدى هذه الشركات الكبرى، وهي الشركات ذاتها الخالية من أدنى درجات الإنسانية، فهي ترى الناس يتضورون جوعا، أو يموتون بسبب الأمراض الفتاكة التي تحدثها منتوجات التبغ، ترى الشركات كل ذلك ماثلا أمامها، ولكن مديريها التنفيذيين يغضون الطرف، ولاهم لهم سوى الربح ضمن المنتوج السنوي، وليذهب الناس جميعا إلى الجحيم، وإذا شئنا الحديث عن حالة إنسانية فلاشيء أسوأ من أن يموت إنسان بسبب دواء لا يملك قيمة شرائه، في حين تسيطر هذه الشركات على السوق، وتتمسك بالسعر المرتفع للدواء، وليذهب المرضى إلى الجحيم.