الفساد آفة خطيرة منتشرة في البيئات العربية والإسلامية بل تشكل ظاهرة عالمية لا يخلو منها مجتمع غني أو فقير ديمقراطي أو غير ديمقراطي، وتمتاز المجتمعات الديمقراطية بحصانتها المجتمعية وآلياتها الفاعلة ما يمكنها من كشف بؤر الفساد ومحاصرتها، بخلاف المجتمعات التي تفتقد هذه الآليات أو لديها آليات غير فاعلة.

Ad

وتجمع أدبيات التنمية على وجود ارتباط عكسي بين ارتفاع منسوب الفساد وغياب الحكم الصالح وانخفاض معدله بوجود الحكم الصالح بما ينطوي عليه من قوى تحجم الفساد وتحاصره في أضيق نطاق.  مكافحة الفساد أصبحت شأناً عالمياً بعد أن كانت محلياً مثل مكافحة تجارة المخدرات والاتجار بالبشر وغسل الأموال ومحاربة الإرهاب، ولذلك سارعت الأسرة الدولية في ديسمبر 2003 إلى تبني اتفاقية دولية لمكافحة الفساد انضم إليها 150 دولة منها 16 دولة عربية، وقد حظيت الاتفاقية باهتمام دولي قل نظيره، وما ذلك إلا لتعاظم وعي وإدراك المجتمع الدولي بمخاطر هذه الآفة على جهود التنمية وبرامج الإصلاح والاستثمارات الدولية كافة.

ما هو الفساد؟ في اللغة نقيض الصلاح، وهو مفهوم يتسع لكل صور الانحراف عن العدل والحق، كالظلم والبطلان والهلاك والإثم، وهو بهذا المفهوم يرادف المدلول القرآني الواسع للفساد، وما أكثر الآيات التي تتحدث عن استشراء الفساد لدى الأمم القديمة، وكيف أدى إلى هلاكهم، ويحذرنا القرآن الكريم في العديد من الآيات من التساهل في مواجهة الفساد فنلقى مصيرهم "ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا"، والتراث العربي زاخر بأدبيات تقبيح الفساد واستنكاره، والمسلمون خبروا مبكراً مقاومة الفساد منذ ثورة الأمصار على الفساد في عهد عثمان رضي الله عنه، إن صور الفساد لا تحصر: الاستبداد فساد، أكل أموال الناس فساد، استنزاف الموارد بغير عدل فساد، الاستغلال الظالم فساد، حرمان الناس من حقوقهم فساد، أنواع التمييز كلها ضد المرأة والمخالفة للدستور فساد، تهميش الأقليات الدينية والمذهبية والتعدي على ممتلكاتهم ودور عباداتهم وحرمانهم من المناصب فساد، إسناد المناصب لا على أساس الكفاءة بل لاعتبارات طائفية أو مذهبية أو قبلية فساد، التدخل في عمل القضاء فساد كبير، كما أن الفساد يطاول كل القطاعات وعلى المستويات: هناك فساد سياسي وفساد إداري وفساد مالي وفساد اجتماعي وفساد أخلاقي، وكما يوجد فساد مقنن أي يتستر بالقانون، وهو نوع من الفساد يقوم فيه متنفذون باستصدار قوانين وأنظمة للاحتكار تجارياً أو صناعياً أو خدمياً، ويحققون ربحاً على حساب المستهلك، "طبقاً لطاهر كنعان"، فكذلك يوجد فساد يتستر بالدين، وهو نوع من الفساد يستثمر الدين لمكاسب تجارية أو نفوذ اجتماعي أو أهداف سياسية، عبر توظيف منابر المساجد أو المواقع الإلكترونية أو الفضائيات الدينية في الدعوة إلى توجه سياسي أو إيديولوجي معين، أو لبث الكراهية ضد الآخر، أو للتحريض الطائفي أو المذهبي أو العنصري أو التعصبي، أو للتحريض على العنف، وتخوين الآخر وتكفيره وتفسيقه.

كما يقسم الباحثون الفساد إلى: فساد كبير يتعلق بالعمولات الكبيرة في صفقات السلاح والشركات الدولية عابرة القارات، وفساد صغير يتعلق بدفع رشاوى لموظفين من أجل تخليص معاملات أو مخالفة للقانون، كما أن هناك نوعاً من الفساد يسميه بعض الباحثين بـ"الفساد البنيوي"، وهو ذلك النوع من الفساد الذي يتم فيه احتكار مواقع القرار من جهة، وتشكيل شبكة تنتفع من استخدام الدولة باعتبارها جهازها الخاص من جهة أخرى- طبقاً ليعقوب قبانجي. وبقي أن نشير إلى نوع آخر من الفساد يطلق عليه الباحثون "الفساد العربي" من خصائصه السماح بالتداخل بين عالمي السلطة السياسية ورجال الأعمال، وهو ما نبه إليه ابن خلدون قديماً في المقدمة بـ"الجاه المفيد للمال"، وما يميز هذا النوع أنه يصبح ممارسة عامة مقبولة اجتماعياً تحت غطاء الولاء السياسي أو الانتماء القبلي أو الطائفي، مما يمكن في ظروف معينة أن يتحول إلى فساد جماعي. لكل هذه الاعتبارات لا يمكن وضع تعريف جامع مانع للفساد، وهذا ما نلاحظه في الاتفاقية الدولية للفساد، حيث تجنبت وضع تعريف محدد، ولجأت إلى وضع توصيف للحالات التي تعد فساداً مجرَّماً مثل: الرشوة بجميع وجوهها، الاختلاس، المتاجرة بالنفوذ، إساءة استغلال الوظيفة، الإثراء غير المشروع، غسل العائدات الإجرامية، إخفاء الممتلكات المتأتية من جرائم الفساد، إعاقة سير العدالة في ما يتعلق بهذه الجرائم. إن معضلة التنمية، أن البيئة العربية لديها القابلية الكبيرة للفساد، وذلك لضعف الحصانة المجتمعية من جهة، وطول أمد الاستبداد من جهة أخرى، ولعلنا نتذكر صرخة الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة في خطاب مشهور 1999 "الجزائر دولة مريضة بالفساد"، وفي مصر يرصد تقرير هيئة الرقابة الإدارية: حالة فساد كل دقيقتين، وأكثر من 80 في المئة من التونسيين يرون الفساد أصاب كل القطاعات. أما في العراق فقد تغلغل الفساد في مفاصل الدولة وأجهزتها الإدارية كافة، وفي الأردن تظاهر الآلاف ضد قانون الفساد، مطالبين بمحاسبة المفسدين وعدم تحصين قانون الفساد، وقد كان تعاظم حجم الفساد العربي هو من أهم بواعث ثورات "الربيع العربي" على الأوضاع الفاسدة، وفي الكويت وعلى امتداد أكثر من أسبوعين، تحرك غير مسبوق للقوى السياسية والشعبية على خلفية قضية "الإيداعات المليونية" المنسوبة إلى نواب في البرلمان، سماها غانم النجار "نواب غيت"، وكان من أبرز مظاهرها: تجمعات وندوات في الساحة الشهيرة "ساحة الإرادة" تطالب الحكومة بوضع حد لفساد المال السياسي ومحاسبة المفسدين، ومطالبات أخرى باستقالة الحكومة وحل البرلمان. ومن جانبها، سارعت الحكومة إلى اعتماد مشروع قانون لمكافحة الفساد من أهم بنوده: الكشف عن الذمة المالية "يشمل رئيس الوزراء والوزراء ورئيس وأعضاء البرلمان بالإفصاح عن أموالهم وممتلكاتهم قبل وبعد توليهم المناصب"، كما قررت إنشاء هيئة عامة مستقلة لمكافحة الفساد، هذا الحراك السياسي الساخن ضد الفساد والمفسدين، دليل حيوية المجتمع الكويتي ويقظته وغضبه من التستر أن ينال الفساد معقل الديمقراطية العريق.

ومهما كانت سخونة الحدث الكويتي فإن الوضع في دول مجلس التعاون، وبحسب مؤشرات الشفافية الدولية، هو الأقل فساداً على المستوى العربي، إذ تدخل "دول التعاون" ضمن الإحدى والثلاثين دولة الأقل فساداً في العالم، وتتصدر دولة قطر الدول الخليجية، باعتبارها الأقل فساداً طبقاً لمؤشر الرقم القياسي لمدركات الفساد الذي تصدره "منظمة الشفافية الدولية" اعتماداً على نتائج مقابلات مع رجال الأعمال والأكاديميين والإعلاميين في كل دولة، وقد أبرمت قطر أخيراً مذكرة تفاهم مع الأمم المتحدة لإنشاء مكتب إقليمي يعد الأول من نوعه في المنطقة العربية لدعم مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية والنزاهة وحكم القانون بالمنطقة.

وأخيراً، فإن الفساد آفة شديدة المقاومة، ولا يمكن القضاء عليها تماماً، ولكن يمكن محاصرتها وتحجيمها، وذلك بتعزيز آليات الشفافية وتمكين المراقبة وصرامة المساءلة وإصدار قانون: "من أين لك هذا؟" وتفعيله على أرض الواقع، واستقلال القضاء، وتوسيع نطاق الحريات الإعلامية في الكشف عن بؤر الفساد في أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع، والأهم من كل ذلك: العمل على تعزيز المناعة المجتمعية ضد الفساد.

* كاتب قطري