هل تصبح مصر جمهورية إسلامية؟

نشر في 14-08-2011 | 22:01
آخر تحديث 14-08-2011 | 22:01
No Image Caption
 ياسر عبد العزيز إذا لم تتمكن الثورة المصرية من التوافق على قيم ومبادئ حاكمة للدستور، تمنع انطواءه على أي مواد تمييزية أو قمعية أو ارتدادية في حال تحكمت بصياغته حكومة "إسلاموية"، فإن مصر قد تتحول بالفعل إلى مشروع دولة دينية، يقودها إلى نفق طويل مظلم، وهو أمر أخطر من أن يتحمله هذا البلد العريق.

قبل نحو ستة شهور لم يكن بمقدور أحد أن يسأل مثل هذا السؤال الذي يظهر في عنوان ذلك المقال؛ إذ كانت الأمور تجري بعيداً عن التمكين للإسلاميين أو حتى احتوائهم في النظام كغيرهم من القوى السياسية المعارضة المدنية، بل كان الإسلاميون يقدمون التنازل تلو الآخر لنظام مبارك المستبد، إما تحت سياط القهر كما فعلت الجماعات الجهادية، وإما طمعاً في البقاء واحتلال مواقع على هامش الدولة والمجتمع انتظاراً لظرف موات وساعة حظ كما فعل معظم السلفيين و"الإخوان".

لقد حلت ساعة الحظ بالفعل فجأة ومن دون حساب أو انتظار، إذ اندلعت ثورة 25 يناير، وحققت بعض أهدافها، فأطاحت بمبارك وأهم أركان نظامه، وذهبت بهم إلى محاكمات، على الأرجح ستنتهي بإدانتهم جميعاً، كما قضت على مشروع التوريث، وأنهت هيمنة الحزب الوطني على البلاد، وفتحت الطريق لإمكانية قيام انتخابات ديمقراطية حقيقية، تتيح فرصا عادلة للجميع للفوز بها والوصول إلى الحكم.

لم يخطط الإسلاميون المصريون لثورة 25 يناير، بل لم يوافقوا على إشعال شرارتها، ولم يشاركوا في بدايتها، إذ كان قطاع منهم ممثل في الجماعات الجهادية منهمكاً في إعادة ترتيب أوضاعه وتلطيف الأجواء مع السلطة الغاشمة بعد سنوات من ممارسته أقصى درجات العنف ضدها. وهو العنف الذي ردت عليه الحكومة بدورها بسلسلة من الإجراءات القمعية، التي شملت السجن من دون أحكام قضائية، والتعذيب، وغسل المخ، وصولاً إلى إعلان "توبة" معظم تلك العناصر وتقديمهم "مراجعات" لأفكارهم، تؤسس لمرحلة جديدة لا يتصادمون فيها مع دولة مبارك.

وانتهج قطاع آخر بين الإسلاميين ممثل في الجماعات السلفية تحديداً سياسة مهادنة للحكم في مجملها؛ بل إن بعض علمائهم وقادتهم حرموا الخروج على الحاكم، واعتبروا "طاعته من طاعة الله"، وهو الأمر الذي عزز الانطباعات الرائجة عن بعضهم بأنهم "مناصرون للحكومة" أو "مخترقون من قبل أجهزة الأمن". ولذلك فلم يكن مفاجئاً أن يخرج بعض دعاتهم في أسخن فترات الثورة وأحرج لحظاتها، ليطالبوا الثوار بـ"العودة إلى البيوت"، ويجرموا أعمالهم الاحتجاجية. كما لم يكن مفاجئاً أيضاً أن يتوالى إعلان بعض علمائهم وقادتهم مواقف مماثلة، حتى بعد انهيار نظام مبارك وخضوعه للمحاكمة، إذ اعتبر أحد شيوخهم أن المصريين يرتكبون إثماً بمثل هذه المحاكمة.

وحتى "الإخوان المسلمين"، أكثر الفصائل الإسلامية المصرية تسييساً وأعظمها خبرة على الإطلاق، لم يستثنوا أنفسهم من هذا الموقف الملتبس. فقد عارض "الإخوان" خروج المصريين للتظاهر في 25 يناير، وهونوا من التظاهرات التي دعا إليها الليبراليون واليساريون والحركات الاحتجاجية الشبابية آنذاك، معتبرين أن "الدعوات الإنترنتية ليست كافية للخروج في تظاهرات".

لكن التظاهرات التاريخية التي اندلعت في "جمعة الغضب" يوم 28 يناير، مثلت نقطة تحول فاصلة في علاقة "الإخوان" بالثورة؛ إذ شعروا بأهمية الأحداث ولمسوا حظوظ النجاح، فقرروا على الفور الانخراط بقوة، وهو الأمر الذي تعزز لاحقاً في ما عرف بـ"موقعة الجمل"، ثم غيرها من التظاهرات و"المليونيات" التي استمرت على مدى ثلاثة أشهر كاملة. كان "الإخوان" يديرون سياسة ذات قماشة عريضة وناعمة ومرنة مع النظام السابق؛ تعارض في جزء منها، وتؤيد في جزء آخر، وتساوم في معظم الأحيان، ولا تخرق الخطوط الحمراء تحت أي اعتبار، بل إنهم عرضوا "تفاهماً وتفاوضاً" مع جمال مبارك، كما قبلوا بتزوير صارخ ضد مرشحيهم في الانتخابات البرلمانية 2010، من دون الخروج في تظاهرات كتلك التي دعا إليها شباب الليبراليين والحركات الاحتجاجية، والتي أفضت إلى ثورة 25 يناير.

ويبدو أن مقولة "الثورة يقوم بها الشجعان، ويجني ثمارها الانتهازيون" ستجد حظوظاً في الواقع المصري بعد 25 يناير، حيث بات الصوت الأعلى في الميادين للتيار الإسلامي بأطيافه المختلفة، كما يبدو أنهم الأكثر اطمئناناً لنتائج الانتخابات البرلمانية المقررة بعد أسابيع، والتي اجتهدوا كثيراً مستخدمين شتى السبل والوسائل للتعجيل بها والحؤول دون تأجيلها، لحرمان القوى السياسية المدنية والأحزاب التي نشأت في أعقاب الثورة من الوقت اللازم للاستعداد للمنافسة الانتخابية.

بل إن تحالفاً إسلامياً عريضاً نشأ بين أطياف عرفت تنافراً تاريخياً ضمن الجسم الإسلامي، ليضم الجماعات الجهادية مثل "الجماعة الإسلامية" و"الجهاد"، إضافة إلى "الإخوان" والمنشقين عنهم، فضلاً عن "الجماعات السلفية" على اختلافها، ومن دون أن يستثني حزباً إسلامياً أكثر انفتاحاً مثل "حزب الوسط".

أبعدت تلك الفصائل الإسلامية كلها تناقضاتها الثانوية، لتتكتل خلف هدف واحد، مصممة على التعجيل بالانتخابات البرلمانية، ورفض البدء بوضع الدستور أولاً كما تنادي بقية القوى والتيارات المدنية، وكما يفرض المنطق، وأخيراً لتعارض بشدة محاولة المجلس العسكري الحاكم والحكومة وضع وثيقة مبادئ دستورية حاكمة، تلزم الأطراف السياسية بتبنيها لتفادي تحويل مصر إلى دولة دينية.

يعرف الإسلاميون أن حظوظهم الانتخابية عالية، ويراهنون على الفوز بأغلبية البرلمان المقبل، ليتمكنوا من تشكيل اللجنة المنوطة بوضع الدستور، الذي يأملون أن يكون "دستوراً إسلامياً"، يهيئ مصر للتحول إلى دولة دينية، ولذلك فإنهم يحاربون بضراوة فكرة المبادئ الحاكمة للدستور، التي رأى المجلس العسكري أنها قد تكون ضمانة لعدم خطف الدولة وتديينها، بل وصل بهم الأمر إلى التلويح باستخدام القوة في حال تم إقرار مثل تلك المبادئ.

يغالط الإسلاميون المصريون في مفهوم الديمقراطية، كما غالطوا في مفهوم الثورة والدولة المدنية، ويعتبرون أن الديمقراطية ليست سوى صندوق انتخابات، وبما أن نظام حسني مبارك ترك عشرات الملايين من العاطلين والمأزومين والمهمشين والفقراء والمضطهدين والأميين والمتدينين بالفطرة، فإن هؤلاء لا شك سيصوتون لشعار يعرفونه ويحبونه؛ مثل "الإسلام هو الحل"، أو "ارفع رأسك فوق أنت مسلم"، بصرف النظر عن الطريقة التي سيطبق بها هذا الشعار، أو الوسائل التي ستحل مشاكل الطبابة والتعليم والضمان الاجتماعي والسياسة الخارجية من خلاله.

إن الديمقراطية قيم قبل أن تكون آليات، ومبادئ قبل أن تكون إجراءات، ولذلك فإن توافق المصريين على تلك المبادئ قبل الوصول إلى صناديق الانتخابات قد يأتي بحكومة منتخبة ديمقراطياً، لكنها تنتهج سلوكاً فاشياً، فتميز بين المواطنين أو تقمع حرياتهم استناداً إلى تفسيرات وتأويلات دينية.

إذا لم تتمكن الثورة المصرية من التوافق على قيم ومبادئ حاكمة للدستور، تمنع انطواءه على أي مواد تمييزية أو قمعية أو ارتدادية في حال تحكمت بصياغته حكومة "إسلاموية"، فإن مصر قد تتحول بالفعل إلى مشروع دولة دينية، يقودها إلى نفق طويل مظلم، وهو أمر أخطر من أن يتحمله هذا البلد العريق والإقليم الذي يؤثر فيه ويقود تحولاته عادة.

* كاتب مصري

back to top