مر عليّ في قراءاتي أن القوة في الموروث والثقافة اليابانية تقوم على ثلاث: قوة السيف وقوة الجوهرة وقوة المرآة. والقوة هنا يصلح أن يراد بها قوة الفرد على مستواه الشخصي، أو قوة الجماعة كلها، أو حتى قوة الدولة.

Ad

قوة السيف، كما هو واضح من التسمية، يقصد بها القوة العسكرية أو الجسدية المباشرة، وقوة الجوهرة يقصد بها القوة المالية، وقوة المرآة، وهي ما أثار انتباهي واستوقفني، يراد بها قوة معرفة الذات والإلمام بقدرات وحدود ومواطن قوة وضعف النفس!

أهمية القوتين، الأولى والثانية، قوة السيف وقوة الجوهرة،

لاشك واضحة، وأثرهما في الحياة، سواء على صعيد الأفراد أو الجماعات أو الدول، جلي ولا يحتاج كثيراً من الشرح والإيضاح. لكن هاتين القوتين بمفردهما، وهنا تتجلى الحكمة اليابانية، لا تكفيان دون وجود ثالثة الأثافي، قوة المرآة، بل إن وجود أي واحدة من هاتين القوتين وحدها أمر خطير فقد يصير سلاحا، قد لا يؤدي إلى جرح صاحبه فحسب بل لعله سيؤدي إلى تدميره، فالقوة الجسدية المباشرة، أو العسكرية، وحدها، أي قوة السيف المجرد، قد تكون مدعاة للاغترار بالنفس والتهور والرعونة والإقدام الطائش على مغامرات غير محسوبة العواقب، قد تودي بصاحبها إلى التهلكة. والقوة المالية وحدها أيضا، أي قوة الجوهرة، قد تغري صاحبها بالبذل والإنفاق غير الرشيد والإسراف بلا حساب، مما قد يوصل صاحبها إلى الإفلاس والانهيار.

وكذلك تخيلوا معي اجتماع هاتين القوتين معا، دون ثالثتهما. قوة جسدية مباشرة جبارة ومال وفير. يقول الله عز وجل «كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى»، فما بالكم به لو زيد فوق ذلك بسطة في الجسد أو القوة والمنعة؟ كما جاء في سورة الكهف في حكاية الرجل الذي جعل الله له جنتين من أعناب ونخل وزرع، «فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا»، إنها معادلة الطغيان العظمى ولاشك، التي تورد صاحبها الهلاك الأعظم، كما حصل لصاحب الجنتين كما قال الله: «وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها»!

أما قوة المرآة فهي القوة الأساس وهي القوة التي تنبني وتقوم عليها القوتان الأخريان. إن قوة معرفة الذات هي قوة الحكمة والعقل والتخطيط. هي القوة التي ترشد المرء والجماعات والدول إلى ما يجب عمله وما لا يجب، وتهديهم إلى معرفة متى يكون الإقدام ومتى لا يكون، ومتى يكون الكر ومتى يكون الفر، ومتى يحين وقت طلب المساعدة ومتى لا يكون لذلك حاجة.

هذه القوة، قوة المرآة، قوة معرفة الذات وإدراك حجمها وقدراتها ومواطن قوتها وضعفها، هي القوة الأساس لأنها هي التي تهدي الأفراد والجماعات والدول إلى صناعة وتطوير وتطويع القوتين الأخريين. بالحكمة والعقل والتخطيط تُبنى القوة الجسدية والعسكرية، قوة السيف، وبالحكمة والعقل والتخطيط والعمل الدؤوب تُبنى القوة المالية، قوة الجوهرة، وبالحكمة والعقل والتخطيط والعمل الدؤوب والقوة الجسدية والعسكرية والمال الذي يجري إنفاقه برشد، يصمد الأفراد والجماعات والدول في هذه الحياة ويعلو شأنهم ويعيشون مستقرين قادرين على مواجهة صعابها وغوائلها.

حكمة يابانية بسيطة في ظاهرها، لكنها عميقة ومتشعبة في معانيها ودلالاتها، ويمكن أن يجد فيها المتأمل في كل مرة يجول فيها بنظره وفكره، الكثير من المعاني الجديدة وزوايا التفكير المختلفة. إنها يا سادتي، حكمة يصح أن تكون منهج حياة.