أكتب لنفسي...!
يقول بورخيس: «أكتب لنفسي»، والمراد هنا كما يحلو لي أن أتصور، أن الكاتب الحق هو من يكتب انسجاما مع أفكاره ومبادئه وآرائه، فلا يكتب مجاملة لهذا الطرف أو ذاك، ولا يكتب حتى مجاملة لمزاج وذائقة القراء... الكاتب الحق، يكتب لنفسه بل سأقول يكتب نفسه، ولا يكتب وفق ما يريده غيره.
يقول الكاتب الأرجنتيني الشهير خورخي بورخيس في عبارة مفتوحة وعميقة جدا، حين سألوه لمن يكتب: "أكتب لنفسي، وأكتب لأصدقائي، وأكتب كي أخفف من عبء مرور الزمن".أنا ممن يعشقون العبارات المفتوحة العميقة... العبارات حمالة الأوجه... العبارات التي لا تسلمك مفاتيح معانيها من القراءة الأولى، فهذا النوع المباشر المستسلم يهين ذكائي، ويجعلني أشعر كصبي يطالع في كتاب من كتب المرحلة الابتدائية.العبارة الجيدة... المقالة الجيدة... الكتاب الجيد، هي جميعا تلك التي تستفزك فتلبسك ثوب المفكر رغما عن أنفك، لا ثوب القارئ المتلقي المحايد، الذي يراد لصاحبه أن يلقم كل ما سيوضع في فمه، أعني ما سيحقن في عقله... هي تلك المواد المليئة بالفراغات المعرفية والملغومة لذلك بالاحتمالات، والقابلة لثورة أفكارك المتوقعة، حتى ولو شطحت بعيدا، والمتعطشة لإضافاتك وتعليقاتك، والمستوعبة لاحتمال قبولك أو ردك لها في نهاية المطاف. سأعود الآن إلى عبارة بورخيس، حتى لا أبتعد عنها كثيرا...يقول بورخيس: "أكتب لنفسي"، والمراد هنا كما يحلو لي أن أتصور، أن الكاتب الحق هو من يكتب انسجاما مع أفكاره ومبادئه وآرائه، فلا يكتب مجاملة لهذا الطرف أو ذاك، ولا يكتب حتى مجاملة لمزاج وذائقة القراء... الكاتب الحق، يكتب لنفسه بل سأقول يكتب نفسه، ولا يكتب وفق ما يريده غيره... الكاتب الحق يترك على الأوراق قطعا من ذاته مع كل حرف وكلمة وعبارة ومقالة... هذا هو الكاتب الحق، أما ذاك الذي يكتب على طريقة ما يطلبه المستمعون، أو ما يطلبه القراء في حالتنا هذه، فالجدير به أن يعمل في مجال برامج المنوعات في التلفزيون أو الإذاعة... أو ربما الصحافة!يقول بورخيس: "وأكتب لأصدقائي"، وسأتصور هنا أن المعنى يكمن في الدلالات والمعاني المترامية الأطراف للفظة الأصدقاء... أصدقائنا، وأعني هنا الأصدقاء الحقيقيين، لا من دأب الناس على تسميتهم بالأصدقاء، هؤلاء هم امتدادنا في هذه الحياة، هم عوننا وأماننا وراحتنا... هم، في كثير من الأحيان، عيوننا الأخرى، آذاننا الأخرى، ضميرنا الآخر... بورخيس يكتب لهؤلاء الأصدقاء الذين يحبهم ويحبونه. يشاركهم آماله وآلامه... أفراحه وأحزانه... انتصاراته وانكساراته... ينصحهم ويعطيهم خلاصة تجربته وعصارة أفكاره ومنتهى تأملاته في هذه الحياة، وهذه هي الصداقة الحقيقية، وهذا هو مقتضى الصداقة ومرادها وحقها.ويقول بورخيس أخيرا في عبارته الرائعة: "وأكتب كي أخفف من عبء مرور الزمن"، وسيحلو لي أن أفسر المعنى المقصود هنا أن رحلة الزمن لا يمكن أن تمر على أي إنسان هينة سهلة إن هو سارها ليقطعها فردا وحيدا، دون رفيق أو شريك، والكاتب الحقيقي مرافق لقرائه، يخفف عن نفسه وعنهم عبء وعناء رحلة الزمن من خلال الكتابة، بإشراكه لهم في تجربته، وإنارة دروبهم بأفكاره واستنتاجاته واستنباطاته.لهذه الأسباب يكتب الكاتب الحقيقي، لنفسه ولأصدقائه، وكي يخفف من عبء مرور الزمن، ولا خير في كتابة لم تكن مفيدة للنفس ولا للأصدقاء، ولم تخفف على كاتبها وقارئها من عبء مرور الزمن.هكذا حلا لي أن أفهم عبارة بورخيس، وأن أتصورها، وأن أتمثلها في ما أكتب... ولكم أنتم مطلق الحرية أن تفهموها بشكل آخر وربما بأشكال أخرى، لكن المهم في كل الحالات، ألا تمر هذه العبارة- وكل عبارة- إلا وقد تركت في داخلكم معنى وتأثيرا ما، كما فعلت معي.