من طرائف بعض المجتمعات في تقييمها للعبقريات أنها تتكئ على المحفوظ لا على القدرة على الابتكار والإبداع. حين تأتي بطفلين، أحدهما يحفظ عشرات القصائد ومئات الكلمات، وكل كتب النصوص والمحفوظات وتأتي بطفلٍ آخر يبدع في التقنية، وفي تفاصيل الكمبيوتر والبرمجة فإن الرأي السائد يعتبر الحافظ أفضل وأهم وأكثر عبقريةً من المبتكر. وحين تأتي بطفلٍ يفهم الفكرة ومن ثم يطورها أو يحل المعادلة الرياضية بطريقةٍ أخرى، أو بقانون مختلفٍ ثم تأتي بشخصٍ آخر قد حفظ كتباً عن ظهر قلب فإن الرأي السائد سيفضل الحافظ على الفاهم. مع أن الأمم تحضرت وتطورت من خلال المبتكرين والفاهمين أكثر من تطورها عن طريق الحفظ والتلقين والتكرار وتحويل الإنسان إلى آلة تسجيل.

Ad

من بين الكتب الممتعة التي تحدثت عن هذه الفكرة صفحات أفردها الأديب السعودي عابد خزندار، في كتابه "حديث المجنون" فهو يسرد رأيه بهذه الحالة التعليمية الخاطئة، إذ يقول متذكراً أيام التعلم في الصبا: "في واقع الأمر، فإن استراتيجية التعليم في تلك الأيام، ويبدو أنها مازالت كذلك، كانت تنهض على ما يمكن أن يسمى بثقافة الذاكرة، وليس ثقافة النقد والإبداع، وثقافة الذاكرة تعتمد على التلقين والحفظ وتخزين المعلومات، أي ما يقوم به الكمبيوتر الآن بكفاءة أكبر من كفاءة الإنسان، والغريب أننا كنا في تلك الأيام -أيام الدراسة- نسمع حكاية دون أن نفهم مغزاها الحقيقي، إذ قال الراوي إن أحدهم قال للآخر وهو معجب ومنبهر: إن فلانا صار يحفظ صحيح البخاري، فقال له الآخر: وما وجه العجب في ذلك؟ لقد زادت نسخة في البلد" (ص154).

مشكلة أن يتحول التعليم إلى وسيلة لإنتاج النسخ المكررة من دون تحريض العقل والقدرات والمواهب على الاستيقاظ. والنص الذي تحدث فيه خزندار يجعلنا نعيد السؤال عن تطور التعليم ولماذا لم يكتب له النمو؟ منذ ذلك الوقت، أي منذ أن تأسس التعليم في البلدان العربية، والتعويل في غالب الأوقات يكون على الحفظ لا على الفهم، على تكرير اللفظ دون الإبداع في فهمه!

ربما يعود أصل الإشكال إلى ثقافة المشافهة التي طبعت تاريخنا العربي، وهي ثقافة كانت ضرورية في وقتٍ من الأوقات، حيث إن الحفظ ساهم في نقل الأحاديث وروايتها وإسنادها، كما أن الحفظ أيضاً حفظ التراث العربي والشعر العربي، وأبدع العرب بالفعل في توريث النصوص والمحفوظات والتراث للأجيال التي تليهم، ولكن الآن وبعد أن تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال لا أجد أي معنى للإبقاء على التعليم التلقيني الذي يسميه خزندار "ثقافة الذاكرة" مع أن الإبداع يتطلب استحضار قواعد ومعادلات، لكن تلك تحضر في الذهن من خلال استيعابها ويمكن أن نطور فيها، ولا ضرورة للحفظ الأصم لأي قطعةٍ من كتاب، والأهم هو الفهم.

في كتابه الجميل: "التفكير فريضة إسلامية" يتطرق الأديب عباس محمود العقاد إلى الحث على الفهم في القرآن، ويشير إلى عدد الآيات التي تحث على التدبر، "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ" وفي آياتٍ كثيرة جداً التحفيز على التدبر والفهم والتفكر، ولكننا لم نأخذ بهذه الآيات، بل أخذنا بثقافة الذاكرة، أو أسلوب المشافهة، لهذا غرقنا في المحفوظات وابتعدنا عن الفهم.

المسؤولية كبيرة على مؤسسات التعليم ووزارات التعليم بأن تنهض بالمدارس والعقول والنشء، لتضعهم في مكان مهيأ للفهم والإبداع والابتكار، وألا تكون أقصى أماني الطالب أن يحفظ بل أن يبدع وأن يبتكر، وهذا هو الإبداع وهذه هي الموهبة، المشكلة أن بعض مؤسسات الموهوبين تأخذ الحفّاظ لا الفاهمين أو المبدعين أو المبتكرين!

أتمنى أن نتجاوز هذا الخلل، وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة.