كأنما تراه في سوسن أبيض
الكاتب العراقي محيي الاشيقر يمتلك أرشيفاً صداقياً حميماً، وثقافة وجدانية عالية وعمقاً روحياً أصيلاً. وهو خارج المواضعات الاجتماعية، شديد التفرد والألمعية في نقده للمنظومات الفكرية والثقافية السائدة في العالم العربي، من ينظر بعمق في أعماله الأدبية سيكتشف عالماً محبوكاً بتجربة سردية ذكية تمتع القارئ. في عمله "سوسن أبيض" الصادر عن دار شرقيات 2008، يكتب القاص والروائي محيي الاشيقر بلغة مسترسلة، دقيقة، متوترة، وذات زخم ايقاعي متواتر، يكتب عن ذوات وحيوات متشظية عن شخصيات اللجوء في المنفى تحديداً، وهي شخصيات أغلبها إن لم يكن جميعها تعيش حالة عدم توازن نفسي وحياتي. الملاحظة الأولى، أن السمة الغالبة في هذه المجموعة القصصية، هي ذلك العطب والخواء المرعب، وفن التحايل على العيش وانعدام إمكانية التواصل الذي تعيش فيه هذه الشخصيات. والعطب هنا لا يمس العناصر والمؤثرات الخارجية للشخصية فحسب، بل هو عطب روحي، يخترق الكائن من الداخل بطريقة قد لا يبدو النسيان أو التخلص من البعد الروحي ممكناً. وفي ظني أن الاشيقر أراد أن يدفع بكائناته إلى تخوم الحدود القصوى، إلى حالة من القدرية، الضاغطة وإلى مصير فنتازي أسود. يندر أن نجد عملاً عربياً بهذه القسوة "وهذه نقطة تحسب له" كأنما يريد الكاتب تصفية حساباته مرّة واحدة وإلى الأبد مع المرحلة أولاً والأمكنة وتواريخها ثانياً سواء أكانت هذه الأمكنة أصلية "الأوطان" أم مستعارة، "بلدان الهويات الجديدة" وتحديداً الدول الاسكندنافية. الملاحظة الثانية أن بعض نصوص هذه المجموعة وهي طويلة نسبياً، تحتوي على ثيمات وفيها من العمق بحيث تصلح لمشاريع روائية متقدمة وجريئة. "الدور الأخير، وفاكهة الغرباء" على سبيل المثال. في سوسن أبيض لا يجامل الاشيقر أحداً، لا يعلّي عناصر عاطفية على حساب حقائق يراها هو أنها جزء من كارثة مرحلة برمتها فرضتها نظم استبدادية بالغة الضراوة، وهذا أحد أسباب طلب اللجوء أصلاً، يقوم الاشيقر بتفكيك هذه العلاقة ما بين بلدان المنشأ إن صح التعبير والبلدان الحاضنة، من زاوية نقدية مزدوجة وحادة، ولا يترك لها مجالاً إلا للمراوغة أو الكذب على الذات وتبكيت الضمير، والعجز عن الفعل وفق إرادة أصلية. وعلى الأرجح أن محيي الاشيقر يحاول في جلّ كتاباته، الإمساك على الجوهر المؤرق لشخصياته، وهذا الجوهر يتجلى في الجذر، جذر الأرض أولاً وأساساً، أمثولة قدمها ادوار سعيد في كثير من كتاباته وأبحاثه، غير أن الاشيقر يصر على أن الاقتلاع، المنفى، الحنين، ليست سوى مفاهيم ومسميات حقيقية كانت أو متوهمة، لضياع الجذر الإنساني، وبالتالي امتثال هذه الشخصيات لمختلف التجارب الحياتية في المنافي، وما يريد أن يوصله لنا محيي الاشيقر كقراء، أن المنفى ليس بالضرورة فعلاً من أفعال القوة بل على العكس، قد يكون جزءا من صيرورة الإنسان المقتلع من الجذور.