في الأسبوع الماضي وقف خمسون فتى سموا أنفسهم بالمحتسبين أمام بوابة قرية الجنادرية الشعبية التي تبعد عن الرياض خمسين كيلومتراً تقريباً يصيحون الله أكبر أكبر أكبر يريدون الدخول لهذه القرية التي انتشر الرقص والغناء فيها والاختلاط بين النساء والرجال والغزل الفاضح. مبالغات صورت أن ما يدور في هذه القرية أشبه بما يدور في نوادٍ ليلية تم نشرها في "يوتيوب" ووسائل الاتصال الاجتماعية، وساهم بها بعض الشيوخ المتشددين الذين أطلقوا فتاواهم بين الناس بأن الذهاب لهذه الجنادرية لا يجوز، وأن المسلم الحق لا يرسل نساءه إلى الجنادرية في يوم العوائل، لأنه اختلاط، ولأنها مكان لعب واللعب حرام. من الجيد أن هذه الحملة الاحتسابية وقعت هذه المرة في الجنادرية حتى يعرف الناس أي مبلغ بلغ توتر المتشددين، فالجنادرية لم تزد عن كونها مهرجاناً للتراث، لا يعرض سوى الحرف القديمة الشعبية، ولا يوجد فيها من الغناء سوى العرضة النجدية والمزمار الحجازي والدحة الشمالية والخطوة الجنوبية، ويرتادها الناس من الطبقات البسيطة والوسطى المحافظين، الذين يدلفونها للتنزه والترويح عن النفس، وقد بلغ عدد مرتاديها مليونين ونصف هذه السنة، ومن السهل على هؤلاء اكتشاف أن كل ما قيل عن الجنادرية هو تهويلات عقول مريضة تريد أن تحكم الناس بحسب رؤيتها للعالم عبر شق ضيق في باب، رافضة رؤيته عبر فتحة الباب الواسعة. استنكر الناس حملة الفتية المحتسبين، ومنعت الشرطة دخول هؤلاء الفتية، وقبض على بعضهم. وفي اليوم التالي امتلأت الصحف بحملة استنكار ضد ما حصل رغم أن هذه الحملة هي واحدة من سلسلة حملات تستهدف كل فعالية في المجتمع السعودي، مثل معرض الكتاب الدولي في الرياض، وتستهدف التجمعات الثقافية وتشنع عليها وترمي أصحابها بتهم التكفير والإلحاد، فما الذي اختلف هذه المرة؟ هل لأن قرية الجنادرية وفعاليتها تحت رعاية مؤسسة عسكرية عريقة كرئاسة الحرس الوطني، ولهذا بدا التجرؤ عليها من أشد الحماقات؟ أم لأن الجنادرية فعالية شعبية تهم كثيراً من الناس؟ ولماذا لا يتم التعاطي مع هذه الحملات بنفس الحسم في حملاتها ضد معرض الكتاب الدولي في الرياض، الذي بحسب مصادر معلنة يزوره ثلاثة ملايين زائر.  هذه المرة أحبطت هذه الحملة التي دوت دوياً هائلاً بين الناس، تبعها استنكار من الطرفين، من الطرف المتشدد الذي عاد يواصل استنكاره بتوقيع بيان يطالب بإيقاف مهرجان التراث والثقافة وفعالياته، ويطلق حملة جديدة تدعو إلى مقاطعة معرض الكتاب القادم بعد عشرة أيام تسخيناً لمعركة حسبة جديدة، وطرف آخر يستنكر هذه الحملات، ويرى أنها تتجاوز حدها بفرض وصايتها على المجتمع، واستخدامها أساليب ليست من الدين كالكذب والتزوير والتهويل حتى ترعب الناس. هذه الحملات كلما قوبلت بالتساهل كرس عند بعض الناس صحتها وصوابها، ولا أقصد هنا أن يمنع الناس حتى المتشددون منهم من التعبير عن رؤاهم، فحرية التعبير حق للجميع، لكن التعدي على حريات الآخرين وفرض الوصاية عليهم واحتكار ساحة الرأي وتكفير المخالفين له هو ما يجب أن يخضع لتشريع وضبط كي نحمي حقوق الناس، وما يتعرض له المثقفون والمثقفات في حملات التشنيع عليهم والاستعداء والتمييز ضدهم، كما أن تمكين الناس من المعارف المتعددة هو حق للناس لا يمكن منعهم منه لأن فئة من الناس لا تريده. أفضل ما تفعله هذه الحملات أنها تقدم للفعاليات الثقافية أكثر مما تقدمه الدعايات التجارية المكلفة، لكنها للأسف تقدم أيضاً عنواناً كبيراً عن سوء استغلال الدين في سياسة كل همها حيازة السلطة مهما كان الثمن.
Ad