أحد المرضى المواظبين على زيارة عيادتي منذ مدة طويلة يتناول علاجاً لارتفاع ضغط الدم كان قد وصفه له أحد الأطباء في بلده قبل قدومه إلى البلاد، ومنذ سنة تقريباً وبعدما قمت بإجراء العديد من الفحوصات والمتابعة المكثفة له، وصلت إلى قرار بأنه لا يحتاج إلى العلاج الدوائي مطلقاً، وبأنه لا يحتاج إلا إلى متابعة نظامه الغذائي والقيام بنشاط رياضي معقول مستمر كالمشي مدة نصف ساعة يومياً، لأجل إبقاء معدل ضغط الدم عنده في المستوى الطبيعي. إلا أن هذا المريض، وبالرغم من قيامه بضبط النظام الغذائي والالتزام بالرياضة بناء على نصيحتي، قد رفض وبإصرار غريب فكرة التوقف عن تناول الدواء، فلم أمنعه من ذلك بعدما وجدت إصراره الكبير، لكونه لم يكن يعاني أي آثار جانبية للدواء الذي كان يتناوله منذ سنوات، واكتفيت فقط بتخفيف جرعته إلى النصف، وهو مستوى أعلم بأن ليس له تأثير علاجي في الحقيقة، لوقوعه دون ما يسمى عندنا في الطب بمستوى الحث أو التحفيز، وبقيت بعدها وفي كل مرة كان يزورني فيها هذا المريض للمتابعة، أعيد تذكيره بأنه ليس بحاجة إلى الدواء.

Ad

وقد فوجئت في زيارته الأخيرة، بأنه منذ عدة أشهر، كان يقوم، وباجتهاد شخصي منه، بقص حبة الدواء التي وصفتها له آخر مرة بالسكين إلى النصف، ويكتفي بتناول نصفها في موعد الجرعة المحدد، وأن ضغط الدم عنده، وبالرغم من ذلك، لا يزال منضبطا جداً. إلا أن هذه المفاجأة أكدت لي مجدداً أنه لا يحتاج إلى العلاج الدوائي كما كنت أخبره دوماً في المرات السابقة، ولذلك دخلت معه في حوار طويل سعياً إلى استجلاء السبب الذي يجعله يتمسك بالدواء إلى هذا الحد، حتى وصلت إلى السر وهو أنه يؤمن بأنه في اللحظة التي سيتوقف فيها عن تناول العلاج سيصاب بأزمة قلبية، كما حصل لأحد معارفه، وأنه بالفعل عندما توقف مرة عن تناول الدواء ارتفع ضغطه بشكل سريع!

والآن سأخبركم بأني أصدق حكاية أن ضغط هذا المريض قد ارتفع بالفعل عندما توقف عن تناول تلك الحبة الدوائية، بالرغم من أني، وكما قلت سابقاً، أعلم تماماً بأنها غير مؤثرة علاجياً أصلاً، وذلك لأنه قد اتضح أن ما يقوم في الحقيقة بالمحافظة على مستوى ضغط الدم عنده هو عقله الباطن وقناعته التامة بأثر الدواء، لا الدواء نفسه، ولذلك فمن المنطقي تماماً أن التوقف عن تناوله سيجعل عقله الباطن يقوم برفع مستوى ضغط دمه إلى الأعلى كردة فعل. قوة العقل الباطن، وفعالية التأثير النفسي، هي أمور قد غدت مثبتة علمياً اليوم في الطب وغيره، والاختبارات الدوائية على ما يسمى بتأثير الدواء الوهمي "البلاسيبو" قد أثبتت هذا مراراً وتكراراً، وهو الأمر الذي رأيته بنفسي كذلك ولمرات عديدة في عيادتي، سواء مع هذه الحالة التي ضربتها لكم مثلاً أو مع العشرات غيرها. فهناك الكثير من المرضى الذين رأيت بنفسي كيف استطاعوا التخلص، من العلاج الدوائي لمرض ارتفاع ضغط الدم فقط من خلال ممارسة "اليوغا التأملية"، والتي يقومون من خلالها بممارسة الاسترخاء النفسي والتركيز على دفع النفس الداخلية إلى حالة من السكينة، تؤدي مع الممارسة والاستمرار، ليس إلى خفض ضغط الدم فحسب، وإنما إلى الكثير من الفوائد الصحية الأخرى، كزيادة اللياقة وانضباط النوم وسرعة التشافي من الأمراض!

لست هنا أدعو إلى "اليوغا" أو ما شابه، فهذا الموضوع عميق ويستحق بحثاً منفصلاً، ولكنني أسعى إلى تسليط بعض الضوء على هذا الأثر الخارق لقوة العقل الباطن وكيف أنه قادر على تجاوز مسألة إعطاء الإنسان حالة من الاستقرار والهدوء النفسي فحسب، وإنما إلى رفع كفاءة وفعالية جهازه المناعي، وصولاً إلى إيقاع نتائج فسيولوجية حقيقية على مستواه الجسماني، وهو أمر يجب أن ننتبه له جميعاً ولا نغفل عنه، وأن نسعى إلى البحث عن تلك الوسائل والطرق التي تجعلنا أكثر قرباً من التحكم به أو لنقل التعامل معه بإدراك.

وأما ذاك المريض الذي ذكرت قصته فسيستمر "نفسياً" بحاجة إلى ذاك الدواء، على الرغم من عدم فعاليته "كيميائياً"، وسيستمر ضغط دمه بالارتفاع كلما توقف عنه، إلى أن أستطيع أن أقنعه تماماً بأنه ليس بحاجة إليه، وأن من يقوم بضبط ضغط دمه هو عقله الباطن ولا شيء غيره!