كلما شاهدت فصلاً جديداً من فصول التعاطي الحكومي مع قضية "البدون"، ألح عليّ السؤال المزعج نفسه، أليس في القوم رجل رشيد؟

Ad

وهنا وقبل الغوص أعمق في طرح الموضوع، سأقول مذكِّراً من يصرون دوما على خلط الأوراق، ومن يجهلون تفصيلات المسألة ومع ذلك لا يترددون عن الإدلاء بدلوهم بشوفينية وقسوة لا تتناسبان مع أبسط المبادئ الإنسانية، ناهيك عن الدين طبعاً، إني لا أطالب بالتجنيس العام لكل من يقولون اليوم إنهم "بدون"، ولا يمكن لعاقل أن يطالب بذلك أبداً، إنما أدعو دوماً إلى تجنيس المستحقين منهم، وإعطائهم الفرصة للوصول إلى القضاء حتى يثبتوا استحقاقهم، دون إبطاء في ذلك، وبهذا سيمكن التعرف على الصادق من الكاذب.

أذكِّر بهذا، ومع ذلك أعلم أن هناك من سيخرج ليقول، ولكن ولعل وربما، هناك مندسون ومزورون ومجرمون، متجاهلاً ما كتبت أعلاه!

ولكن على أي حال، فأنا اليوم، وبعد سنوات عديدة من الاقتراب من قضية "البدون" ومتابعة تطوراتها، وصلت إلى قناعة مؤداها هو أن المشكلة في حل القضية لا تعود إلى عدم الاهتداء إلى الحل أو صعوبات إجرائية أو نقص القدرة البشرية لدى الجهات المختصة، وإنما لغياب الرغبة في الحل، ولغياب الإنصاف تجاه هذه الفئة المظلومة ظلماً فادحاً.

هؤلاء الناس، وبعيداً عن فكرة التجنيس، وإن كان الحصول على الهوية في قناعتي هو أهم الحقوق التي يجب أن يتمتع بها الإنسان، ولكن بعيداً عن ذلك، فإن لهم حقاً إنسانياً واضحاً على هذه الدولة التي يعيشون على أرضها، حقا إنسانيا تكفله الشرائع السماوية والأخلاقيات الإنسانية والمواثيق الدولية، وهو ما حرموا منه طوال الفترة السابقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. إن لهؤلاء الناس، بغض النظر عن مآل جنسياتهم وأصولهم وأعراقهم ومذاهبهم، حقاً في الحصول على التعليم لأبنائهم، والرعاية الصحية، والبحث عن فرصة عمل، حتى قبل الوصول إلى مرحلة البت في استحقاقهم للجنسية من عدمه.

هذه الحقوق الإنسانية لم تمنح لهم في حقيقة الأمر، مهما حاولت بعض الجهات الرسمية وغيرها أن تقول بذلك، لأنه عندما تجبر شخصاً على أن يستصدر هوية أمنية يقر من خلالها بأنه منتمٍ إلى جنسية دولة أخرى ليتخلى بذلك عن المطالبة بحقه في التجنيس، نظير حصوله على تلك الحقوق الإنسانية التي لا يصح أبداً عند أي دولة تحترم الإنسان أن تكون محل مقايضة، فأنت لم تمنحها له أبداً.

ليس أمام حكومتنا الموقرة إزاء قضية "البدون" اليوم إلا أن تشرع حقاً في حلها بأسرع وقت، وإلا فإن القضية التي تغلي من سنوات ستطيش لا محالة، وستتعدى أصداؤها الحدود، وما عاد هذا بالأمر الصعب كما كان سابقاً، فنحن اليوم في عصر الإعلام الحديث الذي صار ينقل كل شيء إلى كل العالم بضغطة زر وبلمح البصر. تجاوزات رجال الأمن غير المقبولة بتاتاً في حق المتظاهرين السلميين "البدون" في منطقة تيماء، وهي المنطقة التي لم يسمع عنها الكثير من أبناء الكويت أصلاً، وصلت اليوم بفضل "تويتر" و"فيس بوك" وشبكة الإنترنت إلى أبعد أبعاد الدنيا، وما عاد بالإمكان إخفاء أي شيء، ناهيك طبعاً عن اتهام الرصيف أو عمود الإنارة، بأنه هو من اعتدى وضرب المتظاهرين!

حماسي الذي لا يفتر، ومطالبتي المستمرة بحل قضية "البدون" في أسرع وقت حلاً جذرياً، ينبع أولاً من إنسانية القضية على طول الخط، وثانيا لسبب لا يقل أهمية عن السبب الأول، وهو الهاجس الأمني والقلق على هذه البلاد من عواقب الأمر.

قضية "البدون" وكلما تركت أكثر وأكثر بلا حل ناجع، فإنها تصبح أعقد، وتكبر كما تكبر كرة ثلج متدحرجة، وإن كان البعض لا يريد تجنيس "البدون" خوفاً من المندسين، على حد زعمه، فإن هؤلاء المندسين إن كانوا مدفوعين في السابق بالرغبة في اكتساب جنسية الكويت ليعيشوا في كنفها هرباً من ظروف بلدانهم الصعبة، فإن هناك من يندسون اليوم لدوافع تخريبية تدفعها أجندات خارجية.

كما أن هؤلاء "البدون"، وعلى إثر هذا الحرمان المتواصل، من التعليم والعمل والصحة، سيخرج منهم، لطبيعة الأشياء، من سينحرفون عن الجادة وسيقومون بأعمال مخالفة للقانون تهدد أمن المجتمع، وقد قال الصحابي الجليل أبو ذر: "عجبت ممن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه".

يا صاحب الأمر، حان وقت اتخاذ القرار الحاسم في شأن هذه القضية، الآن ودون إبطاء، فالركون إلى ما سيخرج عن اللجنة المكلفة بحل القضية بقيادة صالح الفضالة، وهي التي تعمل منذ سنوات، ويقول رئيسها إن أمامها سنوات أخرى قبل الوصول إلى معالجة القضية، لن يجدي نفعاً، بل لن يزيد الطين إلا بلّة، والنار إلا اشتعالاً.

وتذكر يا صاحب الأمر أن معالجة هذه القضية سيكون لمصلحة الكويت بأسرها، قبل أن يكون لمصلحة "البدون"، هذا والله الغالب على عباده، وهو من حرَّم الظلم على نفسه وجعله محرماً بين عباده، أعاذنا الله وإياكم من الظلم.