«ديفد بلين» الأميركي لم يكن ساحراً ولا حاوياً، ولم تكن موسوعة ويكيبيديا منصفة معه حين صنفته كحاوٍ عظيم، كان ديفد بلين عملاقاً في ضبط نفسه، جباراً في صبره، زاهداً في حياته، وكان أكثر من ذلك بكثير. قضى ديفد 63 ساعة كاملة واقفاً من دون نوم في ساحة تايمز سكوير يحيط به قالب من الجليد، لم يكن يرتدي ما يقيه من صقيع البرد ولا يمكنه أن يتحرك ولو بمقدار شعرة واحدة في وقفته، وإلّا صعقه الجليد. وفي مخاطرة أخرى، تمدد ديفد بلين أسبوعاً كاملاً في تابوت ودفن تحت الأرض كجثة هامدة من دون حياة، ولم يكن لديه غير الماء ليشرب، وأيضا، وقبل أن أنسى الكثير من حكاياته العجيبة، أمضى ديفد أربعة وأربعين يوماً كاملة مستلقياً على ظهره في قالب زجاجي وتُرك طافياً فوق لجة نهر التيمز وفقد أربعة وخمسين رطلاً، وكان أشد الألم الذي عاناه هو أن يبدأ جسده يأكل من عضلاته كي يبقي على طاقة الحياة، وكتبت عن ذلك الخبر المدهش مجلة «نيوانغلند» للطب، وتلك من أعظم المجلات الطبية في العالم، ومن غير المعقول أن «تفبرك» تحليل الخبر تلك الجريدة العلمية الرصينة، وتبالغ فيه لإثارة شغف القراء مثل بعض جرائدنا المحلية، الله يستر عليهم، ويحميهم من العين.
وضرب ديفد بلين رقماً قياسياً جديداً في البقاء من دون تنفس حين غطس في الماء أمام المشاهدين في برنامج «أوبرا وينفيري» التلفزيوني، ولأنه كان متدرباً على الطفو دون حراك إلّا أنه في ذلك البرنامج وأمام الكاميرات الساطعة كان عليه أن يشد من عضلاته كي يبقى في العمق ويفقد بعضا من تركيزه الذهني، وإثر ذلك كاد يموت حين تزايدت نبضات قلبه، وشعر بألم شديد في صدره، إلّا أنه صبر وطفا قليلاً وسجل رقم سبع عشرة دقيقة من دون تنفس ونجا.يقول ديفد: إنه لا معنى لحياتي إن لم أحطم قيود الراحة والسكينة، وهذه حياتي منذ أن وعيت على الدنيا، وكأنه يقرر بهذا، حسب رأي الباحث «بويمستر» فلسفة القديس الزاهد سينت سيمون الذي سكن في كوخ ضئيل فوق عمود لعقود طويلة في الصحراء السورية في القرن الخامس بعد الميلاد، وكانت حكمة القديس سيمون تقول إنه كلما تعذب الجسد ازدهرت الروح. لم تكن سورية في تلك الأيام تحت حكم الأسد!تلك كانت ومضات سريعة سجلتها لكم بترجمتي المتواضعة من كتاب حديث للباحثين روي بوميستر وجون تيرني تحت عنوان «قوة الإرادة: إعادة كشف أعظم قوة للإنسان». الكتاب يحاول أن يعيد تفسير معنى الثبات والصبر والتغلب على المحن النفسية، مثل الإدمان والقلق والوسواس القهري بشتى أشكالها وأنواعها بمنهج علمي دقيق، ولا يهمني في هذا المقال كتاب الباحثين في حد ذاته، فالكتاب ضخم ويضم معلومات مفيدة وقيّمة، ما يثير تساؤلي الآن هو مقدار تحمل وصبر «ديفد بلين» الجسدي والنفسي، فهل تتصورون أن مثل ديفد بلين، وإن كان أسطورة للجلد وتحمل مشاق الأمور، يستطيع أن يعيش في الكويت أسبوعاً واحداً، يقرأ كل يوم أخبارنا المحلية، ويتابع نشاط حكومتنا الثابتة كالجبال ويلاحق تصريحات نوابنا، ويبتهج في ليالينا التي تزينها نجوم الفرح والحرية وتكحل عيونها كل أشكال الفنون والمعارض والمسرحيات الرائعة...؟ أشك في ذلك، فنحن الأساطير الخليجية، روتها للتاريخ حبابة بنت هوميروس!
أخر كلام
نحن أكثر صبراً منه
08-09-2011