نواب غيت والمرق السائل
أحاديث «نواب غيت» لا تنتهي، وهي كذلك لأنها ليست إلا نقطة في بحر، وليست إلا محطة في خط سكة حديد طويل لم تبدأ بهم ولن تنتهي بغيابهم. ففي إشارة سابقة لصاحب السمو أمير البلاد عن الفساد في البلدية وصفه بأنه فساد «ما تشيله البعارين»، فإن كانت البعارين تعجز عن حمل فساد البلدية فقط، فلك أن تتخيل حجم ذلك الفساد، وإن كان ذلك فقط في البلدية، فلك أن تتصور استشراء الفساد في أروقة الدولة وأجهزتها، أظن أنه ستعجز عن حمله سفن البحر الكبرى لا سفن الصحراء فحسب.أهمية فضيحة «نواب غيت» سياسية أكثر من كونها قانونية، وهي قد تجعلنا نستوعب الموروث الشعبي للفساد، كيف نشأ، كيف ترعرع، وعشش في أركان الدولة حتى أصبح جزءاً من أهم عناصر الإدارة والضبط والتضبيط السياسي.
فمع زيادة دخل النفط وتوافر موارد مالية ضخمة لدى الإدارة السياسية، وفي ذات الوقت عدم وجود أسلوب قمع منهجي كأداة للضبط والتحكم في المجتمع، فإن المال السياسي، بالضرورة، يصبح واحداً من أهم، إن لم يكن الأداة الأهم، عمليات الضبط والتضبيط والترتيب، فإن لم يكن القمع ممنهجاً فإن استخدام المال العام في السياسة أصبح ممنهجاً وله نظرياته وخبراؤه، لذلك لم يكن مفاجئاً على الإطلاق تصريح الوزير السابق الشيخ أحمد العبدالله في مطلع سنة 2008 عندما قال بالحرف «السؤال البرلماني له سعر والاستجواب له سعر وحتى رفع الصوت خلال الجلسات في الأيام العادية له سعر». لم يثر تصريحه ردود فعل تذكر، بل مر مرور الكرام لأنه كان يعبر عن ثقافة سائدة، مضى على تدشينها سنوات طويلة قاربت نصف قرن.فحقيقة إن نواباً ومرشحين وغيرهم وخصوصاً الحكوميين منهم يحصلون على أموال طائلة لاستخدامها في الانتخابات أو ان نواباً يقبضون أموالا لكي يصوتوا في هذا الاتجاه أو ذاك باتت جزءاً من الفولكلور الشعبي المعتاد، الأمر الذي جعل شلة «نواب غيت» غير مكترثة حتى للتحوط والإخفاء الحقيقي للأموال، وأظن أن أكثرهم مستغربون لإثارة الموضوع أكثر من استغراب الناس تلقيهم للأموال.لعل أهمية تحريك الموضوع تكمن في إمكانية أن تكون هذه فرصة حقيقية لانتشال البلد من هاوية ثقافة متأصلة شائنة شائهة. فلن يكون التحدي الأكبر في إدانة شلة «نواب غيت» ولكن في تحويل هذا الزخم الإعلامي والسياسي والقانوني إلى رافعة للقضاء على أسلوب راسخ في الإدارة السياسية.إنهم لا يغسلون الأموال، بل يرتشون، ويتشرهون، فالشرهة مقبولة، وقديماً قيل «إذا عطوك الشيوخ مرق حطه بشليلك»، ذلك كان شأن المرق فما بالك إن كانت العطايا والهبات والشرهات أموالاً سائلة، ونقداً فاحشاً، لا تتسخ منه الملابس، ولكن بالتأكيد تتسخ منه الضمائر والسرائر ولا حول ولا قوة إلا بالله.