جوازه

Ad

قلت في مقال على هذه الصفحة في الرابع عشر من شهر نوفمبر الماضي، وأنا أتناول قوة الإلزام في قرارات المحكمة الدستورية بتفسير النصوص الدستورية، إن نقد قرارات المحكمة الدستورية وأحكامها هو أحد الضمانات التي تكفل سلامة هذه القرارات وصحتها، فضلاً عن أن نقد الأحكام القضائية هو حق ومطلب مشروع، بشرط أن يكون النقد علمياً وموضوعياً ولا ينال من هيبة القضاة الذين أصدروا الحكم ومكانتهم، ولأن الحق في نقد الأحكام القضائية كان حقاً غائباً عن الكثيرين من المتخصصين، فضلاً عن عامة الناس، فقد رأيت أن أستكمل بحث هذا الموضوع، بالقدر الذي يتيحه لي المقال الصحفي، بعد أن اتصل بي بعض الزملاء والأصدقاء من رجال القضاء والقانون يستفسرون عن هذا الأمر وكأنه شيء جلل.

نقد الأحكام القضائية... أساسه الدستوري

ويستمد الحق في نقد أحكام القضاء من مبادئ دستورية ثلاثة هي:

1- مبدأ علانية الجلسات.

2- مبدأ أن الأمة مصدر السلطات.

3- حرية الرأي وحرية التعبير.

وفي تفصيل ذلك نورد ما يلي:

أولاً: مبدأ علانية الجلسات

يستمد حق نقد الأحكام القضائية أساسه الدستوري الأول من مبدأ علانية الجلسات الذي تقرره الدساتير في أغلب الدول الديمقراطية وتقرره قوانين دول أخرى لتخضع المحاكمات القضائية لرقابة الرأي العام من خلال تتبع إجراءات المحاكمة للتحقق من توافر حقوق الدفاع للمتهمين وإلى أن يصدر الحكم.

بل إن هذا الحق يتعدى حدود الدولة فلا يقتصر الأمر على نشر إجراءات المحاكمة والأحكام الصادرة فيها ونقدها في صحفها المحلية، بل يمتد النقد إلى الصحافة العالمية وهيئات وجمعيات حقوق الإنسان.

ويكمّل المبدأ الدستوري المقرر لعلانية الجلسات مبدأ آخر لا يقل عنه أهمية، وهو وجوب النطق بالحكم في جلسة علنية ليخضع الحكم بدوره لرقابة الرأي العام من خلال نقده موضوعياً. ولئن كانت بعض الدساتير تستثني من مبدأ علانية الجلسات، الأحوال التي تقرر فيها المحكمة سرية الجلسات مراعاة للنظام العام والآداب العامة، كما فعل دستور مصر في المادة (169)، وكما تقرره قوانين المرافعات ومنها القانون الكويتي، فإن المبدأ القاضي بوجوب النطق بالحكم في جلسة علنية لا يرد عليه أي استثناء سواء في الدستور المصري أو الدساتير والقوانين المقارنة، لأن وجوب النطق بالحكم في جلسة علنية هو مبدأ دستوري يعلو حتى على النظام العام.

ثانياً: الأمة مصدر السلطات جميعاً

أما الأساس الدستوري الثاني لحق نقد الأحكام القضائية، فهو المبدأ الدستوري القائل في بعض الدساتير بأن الشعب هو مصدر السلطات جميعاً، وفي بعضها الآخر بأن الأمة هي مصدر السلطات، فلا يجوز وفقاً لهذا المبدأ أن تكون أعمال أي سلطة بمنجاة من رقابة الشعب أو الأمة مصدر السلطات.

فإذا كان القضاة يطبقون القانون ولا يصنعونه، فإن القانون الذي يطبقونه والذي هو سيد الجميع في تنظيم الحياة في الجماعة، يكون محلاً للنقد العلني على صفحات الصحف وفي الكتب العلمية دون أن يعتبر ذلك إساءة للسلطة التشريعية التي أصدرته، بل إن الدساتير ذاتها، وهي أعلى مرتبة من القانون تتعرض في كثير من الدول للنقد والهجوم للمطالبة بتعديلها أو إلغائها وإصدار دستور جديد أو العودة إلى دستور سابق، بالرغم من أن الشعب نفسه غالباً ما يكون قد أقرها في استفتاء أو في جمعية تأسيسية منتخبة.

وخلاصة القول إنه لا توجد سلطة مهما علت مكانتها يكون عملها بمنأى عن النقد، سواء على مستوى المتخصصين أو على مستوى الرأي العام بأكمله وبكل طبقاته وفئاته ومستوياته، ذلك أن الحكم بعد صدوره يصبح في حوزة الأمة وفي ضميرها، أو كما يقول العلامة الأميركي "يتنام": "يصبح الحكم بعد صدوره ملكاً لكل إنسان من حقه أن يناقشه وينقده".

ثالثاً – حرية الرأي وحرية التعبير عنه

إن حق نقد الأحكام القضائية يستمد أساسه كذلك من الحرية التي تكفلها للأفراد الدساتير في النظم الديمقراطية، والتي تقضي بأن حرية الرأي مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غيرها من وسائل التعبير.

ويضيف الدستور المصري لسنة 1971 إلى ذلك قوله "والنقد الذاتي والنقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطني (مادة 47)، كما يفرد فصلاً كاملاً للصحافة ينص فيه على أن تمارس الصحافة رسالتها بحرية واستقلال في خدمة المجتمع بمختلف وسائل التعبير، تعبيراً عن اتجاهات الرأي العام وإسهاماً في تكوينه وتوجيهه في إطار المقومات الأساسية للمجتمع والحفاظ على الحريات والحقوق والواجبات العامة (مادة 207).

وإذا كان العدل والحرية والمساواة هي مقومات أساسية للمجتمع الكويتي، فإن نقد الأحكام القضائية في إطارها يعتبر استخداماً لحرية الرأي والتعبير التي تكفلها الدساتير، بشرط التزام حدود النقد الموضوعي النزيه وأحكام القانون.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.