الثورات العربية أمام ضرورات المجتمع المدني

نشر في 09-11-2011
آخر تحديث 09-11-2011 | 00:01
No Image Caption
 د. شاكر النابلسي - 1 -

يُعرِّف قاموس أوكسفورد السياسي المجتمع المدني بأنه مجتمع المؤسسات، التي لا تتبع الدولة، ولا ترتبط بها، كما لا تتبع عائلة، أو حزباً، أو تنظيماً من التنظيمات. وهو المجتمع الذي يضم مؤسسات تطوعية، وهيئات تعاونية.

وشاع استعمال مصطلح المجتمع المدني في أدبيات العلوم الاجتماعية في تسعينيات القرن العشرين، بعد انهيار دول الكتلة الشرقية، وفي مقدمها أكبر وأقوى هذه الدول، وهو الاتحاد السوفياتي نفسه، من دون طلقة نار واحدة من المعسكر الغربي المعادي، وذراعه العسكري المعروف باسم "حلف الأطلسي". ولقد قيل وقتها إن هذا الانهيار السريع لم يكن مفاجأة لمن يعرفون طبيعة "النُظم الشمولية"، التي كانت تحكم دول الكتلة الشرقية. ففي هذه النُظم الشمولية تبتلع الدولة المجتمع، ويبتلع الحزب الإيديولوجي الأوحد الدولة، ويصبح الفرد أعزل في مواجهة الدولة، والحزب. فينكفئ على نفسه، أو على أسرته الصغيرة، يحتمي بدفئها في مواجهة الكيانات الباردة الضخمة لكل من الحزب، والدولة.

وكان الروائي الإنكليزي جورج أورويل أول وأشجع من سبر أغوار هذه الظاهرة الجديدة في تاريخ البشرية، في روايته الشهيرة "1984"، التي ظهرت في بداية الحرب الباردة في عام 1949، فرغم أنه كان يدين بالاشتراكية في فكره السياسي، فإنه رأي كيف يمكن أن يتم استغلال الإنسان باسم العدالة. فباسم تحرير هذا الإنسان من الاستغلال الاقتصادي يتم استغلاله، بل سحقه إنسانياً، وروحياً. وانهارت الكتلة الشرقية من داخلها، بعد أن سحقت مواطنيها، فلم يدافع عن أنظمتها الشمولية أحد من أولئك المواطنين.

- 2 -

يعتبر المجتمع المدني فضاءً للحرية، يلتقي فيه الناس ويتفاعلون تفاعلاً حراً، ويبادرون مبادرات جماعية بإرادتهم الحرة من أجل قضايا مشتركة، أو مصالح مشتركة، أو للتعبير عن مشاعر مشتركة. وهم يفعلون ذلك بشكل سلمي. ولا ينكرون على غيرهم أن يفعلوا الشيء نفسه. وبهذا المعنى، فإن المجتمع المدني أشبه بسوق كبيرة، يتغير فيها الباعة والمشترون حسب حاجة أفراده، وحسب السلع المبتغاة، وحسب التراضي بين المتعاملين. وهذا التغير حسب الحاجة، وحسب الموضوع، وحسب أطراف التعامل لا ينفي استقرار المعاملات بين أطراف بعينها، ولا ينفي استقرار أنماط التعامل وقواعدها، بحيث لا تكون هناك ضرورة لإعادة اكتشافها في كل مرة تكون هناك ثمة معاملات جديدة، أو أطراف جدد وافدون على الساحة.

- 3 -

إن المجتمع المدني الذي نتحدث عنه اليوم، لم يعد مجرد مفهوم يشير إلى مستوى من مستويات النشاط المجتمعي يتسم بالتعددية والتناقض والجزئية والمصلحة الخاصة، ولكنه يشير إلى مجموعة من المنظمات النشطة التي يمكن تعيينها وتحديد موقعها ومكانها والأدوار الكبيرة التي تلعبها، بموازاة الدولة أحياناً وضدها أحياناً. لكن ما هو أهم من ذلك أن المجتمع المدني لم يعد يُنظر إليه على أنه تجسيد للخاص والمصالح الجزئية، في مقابل الدولة المجسدة للعام وللمصالح الكلية، ولكن كدولة مقابلة، أي كمنظمات ذات نفع عام وأهداف كلية تخدم أهدافا عامة، وتشكل مصدرا للنظام والعقلانية والترشيد والاتساق، داخل نظام اجتماعي هجرت الدولة العديد من ميادينه أو أصبحت غير قادرة على بث النظام والسلام فيها.

- 4 -

فما هي الأسس التي يقوم عليها المجتمع المدني، والتي تمثل تحديات واضحة الآن للثورات العربية في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن؟

إنها الخطوات التالية:

1ـ إعطاء حقوق المرأة كاملة. فلا وجود للمجتمع المدني والمجتمع الديمقراطي بدون إعطاء المرأة كافة حقوقها، التي حرمها منها السلفيون المتشددون والمتطرفون. وكان ذلك يعود إلى أسباب كثيرة، منها نفسي، ومنها تاريخي، ومنها تعليمي. ففي الوقت الذي يقول فيه "برنامج الأمم المتحدة للتنمية"، أن كل أمة يتجاوز فيها عدد الأميين عشرة في المئة لا مستقبل لها، يطالب السلفيون المتشددون والمتطرفون بحرمان المرأة من التعليم. في حين أن فرنسا لم تصبح ديمقراطية وذات مجتمع مدني حقيقي، إلا في عام 1944 عندما أعطى الجنرال ديغول للمرأة حق الانتخاب.

2ـ إن المجتمع المدني هو مجتمع الدولة الحديثة. وهو تعريف الدولة التي ينتمي إليها بالمواطنة الكاملة الحقوق جميع مواطنيها، وتكفل فيها حقوق المواطنة السياسية والإنسانية لكل مواطنيها. فالدولة الطائفية ليست عائقاً أمام الحداثة السياسية فحسب، بل أمام الحداثة ككل، خصوصاً الحلقة المركزية فيها، وهي التنمية الاقتصادية والتقدم في التعليم.

- 5 -

فلماذا ننادي بقيام المجتمع المدني ونحرص أشد الحرص على ذلك، وما هي ضروراته؟

1ـ التعلّم بتواضع من تعايش المجتمعين المدني والسياسي في العالم.

2ـ تعلّم الحداثة السياسية بما هي تنافس سلمي على الحكم بين السلطة والسلطة المضادة، والرأي والرأي الآخر داخل كل منهما. فتاريخ الحداثة السياسية هو تاريخ الحفاظ على التوازن بين السلطات المتوازية بلعبة تعايش كل سلطة مع السلطة المضادة لها، في حوار دائم بينهما قطعاً للطريق على العنف.

3ـ الانتقال من ثقافة التخوين والتكفير إلى ثقافة التعددية، وما تتطلبه من تنافس بين الأفكار والبرامج والفلسفات، من دون السقوط في هاوية عنف أعمى، يتساوى في نهايته المنصور بالمكسور.

4ـ الانتقال من ثقافة الإجماع إلى ثقافة التعددية والحق في الاختلاف، ومن شرعة الغاب إلى شرعة حقوق الإنسان، ومن العلاقات الطبيعية القائمة على المحسوبية التي تمحو الفرد محواً، إلى علاقات تعاقدية تسود المجتمعين المدني والسياسي، ومن العائلة إلى الدولة التي تعترف للفرد بحقه في تقرير مصيره، في حياته اليومية.

5ـ وأخيراً، عدم ضياع الوقت في البحث عن جواب لسؤال: ما العمل للانتقال من ثقافة الإجماع إلى ثقافة التعددية والحق في الاختلاف؟

فالجواب الواقعي لهذا السؤال يكمن في التماهي مع المجتمع المدني الثقافي العالمي القائم على مسلمتين شبه رياضيتين: الدفاع عن استقلال الإبداع والفكر والتضامن مع ضحايا الرقابة والتخوين والتكفير. ونموذج المجتمع الثقافي العالمي، وهو البرلمان الدولي للكتّاب، الذي تأسس عام 1993، وكان الراحل نجيب محفوظ الرئيس الشرفي له.

* كاتب أردني

back to top