ما الذي يجعل الفنان الاسباني فرانسيسكو ديغويا (1756-1828) أكثر إغواء لمخرجي السينما، ولمؤلفي الأوبرا، من بقية الرسامين؟
عوامل عدة، الفني منها أن غويا يُعتبر آخر نجم كلاسيكي، وأول نجم حداثي في حركة الرسم. والانساني الذي نتأمل فيه غويا المتعارض المواقف بين الانسان والفنان فيه، وغويا المتأزم بفعل وعي عالٍ بقدَر البشرية المعتم، وغويا الشاهد التاريخي، وغويا العاشق، وغويا التراجيدي في صممه وموته.هناك ستة أفلام أُخرجت عن هذا الفنان الاستثنائي، منذ 1948. آخرها "أشباح غويا" 2006 لميلوس فورمان. وهناك ثلاثة أعمال أوبرا، أولها للإيطالي "مينوتّي"، الذي يقيم في أميركا. وآخرها للإنكليزي مايكل نيمان "مواجهة غويا" 2000. وفي الوسط عمل للأميركي موري يَستون بعنوان "حياة في أغنية".من السينما رأيت فيلم فورمان، ومن الأوبرا سمعتُ وشاهدتُ عمليْ "مينوتّي"، و"نيمان". كتبتُ عن أوبرا الأخيرة في حينها، وشاهدت البارحة أوبرا الإيطالي لأكتب عنها اليوم. وهما عملان متعارضان فنياً، لأن "نيومان" راءٍ ما بعد حداثي. و"مينوتّي" لم يغادر أفق الأوبرا الإيطالي الذي اعتدناه في ألحان "بوتشيني" المشهورة. "نيومان" يُخرج لنا غويا في الزمن الحاضر محتجّاً على استخدام جمجمته في مشهد عنصري، اعتماداً على حقيقة تاريخية مفادها أن غويا عند وفاته أخفيت جمجمته، ولم تُدفن مع بقية رأسه. ولكن مينوتّي يستجيب لحياة غويا، بالقدر الذي يستطيع. رغم أن هذا الطموح أربك الأوبرا التي لا تتسع لأكثر من بؤرة مُنتخبة، ومركزية في حياة البطل.ومينوتّي الإيطالي (1911-2007) عبقرية موسيقية عاشت حياتها الإبداعية في أميركا. وضع أول عمل أوبرا له وهو في الحادية عشرة من العمر. وتوفي عن 27 عملاً، حققت جميعُها استجابة حارة من محبي موسيقاه. هذه الحرارة تتلاءم مع وفاء مينوتّي"للمقامية" الموسيقية، والتعامل مع الموسيقى كقوة تعبير عن المواقف والعواطف. لا قوة عضلية لاستعراض المهارات التقنية. كان هو يعرف ذلك عن وعي، ولذلك حين طلب منه المغني الاسباني التينور "بلاسيدو دومنغو" (أشهر تينور بعد وفاة "بافاروتّي") أن يؤلف أوبرا له، تلائم صوته، استجاب له ولمقترحه في أن يكون موضوعها الرسام الاسباني "غويا". كلاهما كان يشكو غياب اللحن من حناجر المغنين. ولذلك أثخن الحانَ أوبرا "غويا" بالدم الحي.شاهدتُ الأوبرا في إصدار جديد عن ARTHAUS، وهي تلاحق حكاية غويا منذ التقى دوقة ألبا، ذات الشخصية الثائرة على غياب الحياة والعدالة في نظام الحكم، فوقع في حبها دون استجابة منها. لأنها كانت تدين ضعفه وتوزعه بين مطامح الانسان الأرضية فيه، وبين مطامح الفنان المتسامية. حبه يشي بمقدار رغبته في سمو الفنان فيه، لأن شخصية الدوقة الأكثر درامية والأيسر على الفهم تكشف بدورها عن النقيض في غويا. ولكن غويا الفنان لا يغيب عن التطور الدرامي، فهو يتحول من الكائن المتطابق، رسام البلاط الطموح، إلى الفنان الرقيب بالبصيرة الثاقبة على ما يحيط به من حيف، ولاعدالة.تبدأ الأوبرا بغويا الشيخ، المعزول، الأصم، المهدم، وهو يستعيد شرائح من حياته. يلتقي في خمارة مع امرأة من عامة الناس، وإذا بها دوقة ألبا، التي تضرب له موعداً لرسمها. وفي بيت إقامتها يتفجر حبه، ولكنه يكتشف أنه تورط في صراع سياسي بين الدوقة الثائرة والملكة. وكان هو أضعف من أن يتخذ موقفاً. وأضعف من أن يوحد بين الطموحين في داخله. الأمر الذي جعله ينسحب، بعد أن أصابه الصمم التام، إلى العزلة، وإلى فنه وحده.الدوقة توفيت مسمومة من قبل الملكة. وقبل أن تغادر الحياة كانت ترغب في رؤيته، ولكنه وصل متأخراً. إلا أنه، ما إن غادر إلى عزلته ثانيةً، مُثقلاً بالإحساس بالذنب، حتى زاره طيف الدوقة التي أحب، تُنبئه بأن "حياته وفنه خدما بصدق الهدف الانساني التي سعت إليه".النقاد وجدو ضعفاً في بناء الأوبرا الدرامي. وبعضهم أخذ على مينوتّي تحاشيه مستجدات الحداثة الموسيقية. لم أختلف مع كليهما، ولكني لم أفتقد المتعة في كل دقيقة من الساعة والأربعين دقيقة، التي صرفتها مع "مينوتّي"، و"دومنغو"، والسوبرانو الآسرة "ميشيل بريدت".
توابل
إغواء فرانسيسكو غويا
10-11-2011