الجزيرة ... 15 عاماً من الجدل
يمكن أن تحتفي «الجزيرة» بعيدها الـ15 بشيء من الرضا وليس الفخر أو النشوة، كما يجب أن نحتفي معها ونسجل لها ما تستحقه من إيجابيات، على أن تقف وتراجع ذاتها، وتحاول أن تكون أقل التصاقاً بأهداف الدولة القطرية ورؤاها ومصالحها المباشرة والمتباينة، وأقل محاولة للعب دور «الدولة» أو «الآلة السياسية».
عرف العالم العربي وسائل الإعلام الشعبية منذ نحو قرن، وبدأت الإذاعة والتلفزيون بالتحكم في جزء مهم من صناعة الأخبار في المنطقة منذ أكثر من خمسة عقود، لكن ما أثارته شبكة "الجزيرة" الفضائية، في 15 عاماً، من جدل، وما أطلقته من عواصف وأعاصير، لم يحدث مثله على مدى تلك السنين الطوال.فمنذ انطلقت "الجزيرة"، في مثل تلك الأيام عام 1996 من الدوحة، وهي تملأ الدنيا وتشغل الناس، وتتحول من مجرد وسيلة إعلام تنافس غيرها في بث الأخبار واللحاق بها ومحاولة السبق والتجويد إلى مشروع سياسي قائم بذاته... وفي تفسير آخر "ذراع سياسية للدولة القطرية تتخذ سمت الإعلام"... وفي رؤية ثالثة "دولة داخل دولة، أو دولة أكبر من الدولة".يكيل النقاد الاتهامات الثقيلة لـ"الجزيرة" في كل آن، بحيث باتت أكثر تعرضاً للتصويب والاستهداف من وسائل إعلام بغيضة وعنصرية وأكثر بعداً عن المعايير المهنية والإنسانية السليمة، بمراحل واسعة.لكن ما يلفت النظر حقاً عند تحليل تلك الاتهامات أنها لا تبقى على حال واحدة، ولا تستخدم الذرائع نفسها، ولكنها تتأرجح مثلما تتأرجح تغطيات "الجزيرة" وتتباين يوماً إثر يوم.بعض النقاد يأخذون على "الجزيرة" كونها "إسلاموية" بامتياز، تم خطفها لمصلحة تيار "الإخوان المسلمين"، في ما يرى آخرون أنها "أميركية" حتى النخاع، بسبب "سعيها إلى خدمة المشروع الأميركي"، بل إن معارضين شرسين للشبكة الإعلامية الأخطر في منطقتنا يعتبرون أنها "خدمت الإرهاب ورعته، خصوصاً في أفغانستان والعراق"، في ما يدفع آخرون بالعكس، متهمين إياها بأنها "سلمت المجاهدين إلى الشيطان الأكبر".الأمر ذاته يتكرر بالتفصيل، حين يرى لائمون أنها "توسع لإسرائيل في المنطقة وتنفذ أجندة صهيونية"، في مواجهة آخرين، لا يقلون شغفاً بالهجوم عليها، متذرعين بأنها "ليست سوى حافر إيراني في الخليج".ستجد مواطنين عرباً بالآلاف يرفعون شعار "الجزيرة" في ساحة من ساحات "التغيير والتحرير" العربية، معتبرين أنها "جزءاً لا يتجزأ من ثورتهم"، ومدافعين عنها في مواجهة "عسف السلطات وبطشها"، لكنك ستجد أيضاً، في ساحة لا تبعد غير أميال قليلة، آلافاً آخرين يهتفون ضدها ويحرضون عليها، باعتبارها "أداة لإشاعة الفوضى، وهدم وحدة الأوطان، لتنفيذ أهداف صهيو- أميركية".يحق لـ"الجزيرة" والقائمين عليها الشعور بالفخر الآن، وهم احتفلوا، وتذكروا الأمجاد، مطلع شهر نوفمبر الجاري، في الذكرى الـ15 لانطلاق الشبكة، ولعلهم لا يشعرون بأي غضاضة أو خجل أو وخز ضمير، لأن حصيلة تلك الاتهامات المتضاربة الحادة لن تكون إلا إضفاء المزيد من الأهمية على عملهم وتكريس شعورهم بالثقة. يشبه كل إعلام دولته، فهكذا يشبه التلفزيون المصري دولة حسني مبارك... زيادة في النسل، وزحام، وترهل، وفساد، وخطل، وضجيج هائل بلا طحين، وتغن بأمجاد وإشراقات تاريخية على أطلال خربت وبارت وتعطنت... أو كادت.أما الإعلام اللبناني، فيشبه أيضاً دولته... "أفضل كادر في أسوأ تنظيم"، منابر مسلوبة للتشظى الحزبي والطائفي، لا تفلح المهنية الحاذقة، ولا اللهجة المحببة، ولا "الكاريزما" والطلة الحسنة في إخفاء عوارها العنصري والمرهون لأبغض أنواع المال.وكذلك ستجد معظم إعلام الكويت... جنازات حارة على مفقودين تافهين، واستخداما مفرطا للقوة والمال في ساحة صراع محدودة، وتكالبا خشنا على إطار قضايا شديد الضيق، بما يستهلك الطاقة ويحفز على الشطط.أما "الجزيرة"، فتشبه جيشاً صغيراً ذكياً، مسلحاً حتى الأسنان بالمال الوفير السهل، يبحث عن معركة يخوضها، ليكرس اليقين في كونه "جيشاً"، بغض النظر عن أطراف تلك المعركة أو القيم المتصارع عليها فيها، مستنداً إلى طاقة كبيرة من الجرأة والانتهاز، ومستفيداً من الرشاقة وصغر الحجم وحظوظ الجغرافيا، ومتحللاً من أعباء التاريخ والتزامات الكبار.يحق لـ"الجزيرة" أن تحتفل، وأن تشعر بالمجد والنشوة، ويحق لها أن نقر بأنها ألقت بالحجر الكبير في بركة الإعلام العربي الآسنة، وأعطت انطباعاً جيداً للعالم عن قدرة الإعلام العربي وتنافسيته، ورفعت أسقف الحرية والأداء، ونورت الجمهور العربي، ووفرت له منبراً أكثر انفتاحاً مما اعتاد عليه لعقود، وجرّت المنافسين المتراخين والمسلوبين والمغرضين من شعورهم إلى حيث يكونون أكثر جرأة وانفتاحاً وأقل كذباً وبلاهة ومداراة، واتسع أثيرها لمصادر محجوبة ومحظورة ومعتم عليها لسنين طوال، وطرحت الرأي والرأي الآخر حقيقة لا مجرد شعار، في معظم الأحيان.لكن "الجزيرة" أيضاً لم تستطع أن تبرهن على أنها "مستقلة" أو "بريئة" من تأثير الدولة التي توفر لها المال الوفير السهل، بلا مساءلة أو معيار أو رغبة في إدراك جدوى الإنفاق.كانت "الجزيرة" جزءاً من ثورة الياسمين في تونس، وثورة 25 يناير في مصر، وثورة 17 فبراير في ليبيا، وهي لا تزال "تقاتل" ضد نظام الرئيس صالح في اليمن والرئيس بشار في سورية، لكنها لا تفعل الأمر ذاته حين تقع الأحداث في محيطها الحيوي جداً، وحين تتوالى الضغوط على العواصم التي تربطها بها الروابط الثقيلة، بل إنها تغمض عينيها أو على الأقل إحداهما.حين تحارب "الجزيرة" حروب المصريين أو الليبيين أو التونسيين أو السوريين أو اليمنيين ضد أنظمة بغيضة، وتنجح في "الانتصار" معهم، فإن عليهم أن يتساءلوا: لماذا لم تحارب مع إخوتي هناك حروبهم أيضاً؟ وهل "الجزيرة" وسيلة إعلام أم آلة سياسية وطاقة ثورية؟ وماذا لو حاربت "الجزيرة" معركتها التالية ضدي وليس معي؟يمكن أن تحتفي "الجزيرة" بعيدها الـ15 بشيء من الرضا وليس الفخر أو النشوة، كما يجب أن نحتفي معها ونسجل لها ما تستحقه من إيجابيات، على أن تقف وتراجع ذاتها، وتحاول أن تكون أقل التصاقاً بأهداف الدولة القطرية ورؤاها ومصالحها المباشرة والمتباينة، وأقل محاولة للعب دور "الدولة" أو "الآلة السياسية"... ولتكن مجرد وسيلة إعلام نافذة وموضوعية ومهنية، لا تقاوم ولا تفجر الثورات أو تخمدها، ولا تخسر المعارك أو تربحها، مهما كانت صعبة أو بعيدة، وسواء كانت عادلة أو ظالمة.* كاتب مصري