كيف أصبحت الأصولية-السلفية عقبة لتحديث لغتنا؟
قلنا في مقالنا السابق هنا في "الجريدة"، إن هناك مخاوف كثيرة لدى معظم الناس، وخاصة النساء، من تولّي الأصولية-السلفية السلطة، في المستقبل القريب، في بعض البلدان العربية، التي نجحت فيها الثورات الشعبية، أو نجح فيها منهاج التغيير الديني-السياسي، كالمغرب مثلاً.ومرد هذه المخاوف، يتأتى من كون الأصولية-السلفية ذات أضرار جسيمة، رأى فيها الفكر السياسي العربي مخاطر كثيرة، منها أن الأصولية-السلفية تُشكِّل عائقاً معرفياً، من حيث إن الصراع بين التراث والحداثة صراع سياسي مصطنع، وأن القائمين عليه، والمتولين أمره من الجانب الأصولي-السلفي هم طلاب كراسٍ، ومن الساعين إلى القبض على المراسي.
فالتراث يستوجب التغيير والتجديد والحركة، لكي يستطيع خدمة الحياة التي تستحضره، وإلا، فإنه يصبح تراثاً متحفياً للفُرجة والتذّكر، والحداثة، هي الحالة الناتجة عن تطور زمني، يسمح للوضع القائم المتجدد تلقائياً أن يُعبِّر بشكل أو بآخر عن روح العصر.وقد تكلمنا في المقال السابق عن العائق المعرفي، واليوم سنتحدث عن الأصولية-السلفية باعتبارها عائقاً لغوياً، ومن ثم عائقاً ثقافياً بالتالي.فكيف يمكن للأصولية-السلفية أن تصبح عائقاً لغوياً، كما كانت عائقاً معرفياً؟إعاقة الأصولية-السلفية للغةمن المعروف، أن الأصولية-السلفية، كما سبق للأصولية اليهودية أن فعلت بالعبرية، قد سجنت اللغة العربية في سجن من الشعائر الدينية، ولم تستطع النخب العربية على مدار قرون طويلة، أن تُخرج اللغة العربية من هذا السجن. في حين استطاعت العَلْمانية اليهودية إخراج اللغة العبرية من محبسها، بفضل جهود العَلْمانيين من اليهود.فاللغة كأي كائن آخر، غير ثابتة، وخاضعة للتطور، واللغة تموت عندما تثبُت، ولا تتطور، وناموس التطور العام، سواء في مسار الحياة النباتية، والحيوانية والبشرية، خضع دائماً لمبدأ الانتخاب الطبيعي، لا الإراداوي Voluntarist الذي يُخضع التاريخ له، ولأفكاره، ولا يخضع للتاريخ والتغيرات الكيماوية، والبنيوية، والبيئية التي تدفع "الإعلام الجيني"، للتكيّف مع المستجدات.أما الأحياء التي عجزت عن التكيف فقد انقرضت، ولم يتبقَ منها إلا الأحافير؛ كذلك ينطبق الأمر على اللغات التي انقرضت، واللغات التي عاشت، وتطورت، وازدهرت، كاللغة الإنكليزية التي تُشكِّل أبرزَ مثال على ذلك.فما أثر الأصولية-السلفية على تطور اللغة العربية، وإعاقتها من التطور، إلى درجة أن اللغة العربية نتيجة لذلك، أصبحت مهددة بالانقراض، ولا تُستعمل في اللغة السياسية، أو الاقتصادية، أو العلمية، إلا ما ندر، مما يجعلها لغة دينية، ولغة مجاملات فقط، ويدفعها مستقبلاً- لو بقي الأمر على ما هو عليه الآن– لأن تصبح أحفورة من الأحافير في تاريخ اللغات البشرية؟هناك عدة آثار سلبية للأصولية-السلفية القديمة والمعاصرة على اللغة العربية، شكَّلت عائقاً كبيراً أمام تطور اللغة العربية، منها: 1- إن وراء كل أصولية-سلفية، تكمن أسطورة نرجسية القبيلة، كما يُسميّها العالم النفساني، والفيلسوف الألماني-الأميركي إيريك فروم (1900- 1980)، أو المركزية الاثنية كما تُسميّها الأنثروبولوجيا مُتمثّلة بقول الشاعر العربي:"ونحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر". واعتبرت الأصولية-السلفية اللغة العربية لغة مقدسة، باعتبارها لغة القرآن، لا يجوز مسّها، أو جسّها، بالتطوير والتغيير، حتى لا يتغير الدين الذي نُطق بها. فهي لغة سماوية– على هذا الأساس- لا تخضع لتطورات، وتغيرات الأرض، وهذا ما حرص عليه اللغويون الأقدمون كابن فارس الرازي في كتابه (اللغة والمقاييس)، والفيلسوف ابن حزم في (الإحكام في أصل الأحكام).2- أن الأصولية-السلفية اعتبرت اللغة العربية، لغة الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان، والعابرة للتاريخ، كما هي الشريعة ذاتها، حيث لا فصل بين اللغة والدين، فيما لو علمنا أن معجزة الإسلام كانت معجزة لغوية.ويقول اللغوي الشهير ابن منظور، صاحب "لسان العرب" عن اللغة العربية في هذا المقام: "شُرِّفَ اللسانُ العربيُ بالبيان على كل لسان. وكفاه شرفاً أنه به نزل القرآن، وأنه لغة أهل الجنان". وعن أحد رواة الحديث الشريف، عبدالله بن عباس "حبر الأمة"، أن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: "أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة عربي".3- اعتبار الأصولية-السلفية اللغة العربية، لغة غير قابلة للعلمية، التي هي ضرورة حتمية. فنقل اللغة من لغة دينية إلى لغة علمية، ضرورة يفرضها تطور اللغات. وهذا ما قامت به اللغة العبرية- مثالاً لا حصراً- حين قطعت حبل سرتها بالتراث المُعيق بما هو تراث أسطوري.فالأصولية-السلفية، تعارض أن تصبح اللغة العربية لغة علمية. والأصولية-السلفية تحرص على البحث في التراث بالتراث لا بالعلم الحديث، وعلى البحث في الدين بالدين لا بعلم الأديان المقارنة، كما أن الأصولية-السلفية تحرص كذلك على منع دخول المفاهيم المستوردة إلى اللغة العربية كالديمقراطية والانتخابات... إلخ، كذلك تحرص الأصولية-السلفية على عزل نفسها عن مناهج الفلسفة الغربية، باعتبارها كفراً، وفساداً.4- ونتيجة لكون اللغة العربية لغة دينية مقدسة، فقد حرصت الأصولية-السلفية على إبعاد اللغة العربية عن المصطلحات العلمية الغربية، بل إن إدخال المصطلحات العلمية وغير العلمية على اللغة العربية يُعدُّ من قصور اللغة برأي الأصولية-السلفية، ولعل رفض "مجمعات" اللغة العربية للكلمة الشهيرة "سندوتش"، واستبدالها بالمصطلح، الذي غدا نُكتةً، ووسيلةً للتهكم والاستهزاء: "شاطر ومشطور وبينهما طازج". وكذلك، استبدالهم لكلمة "تلفزيون" بكلمة "الرائي"، وهو ليس رائياً فقط، إنما مسموع أيضاً، وكان يجب أن يُترجم إلى "الرائي المسموع" كما هي الكلمة الإنكليزية الأصل. وكذلك استبدال كلمة "كومبيوتر" بكلمة "الحاسوب" فهو ليس حاسوباً يحسب فقط، ولكنه مصدر للمعلومات، وآلة للطباعة ورسم البيانات... إلخ.ويقول المفكر التونسي العفيف الأخضر إن اللغة العربية لا تقوم- بفضل الأصولية السلفية- بمعالجة يومية لأي مصطلح، في حين أن الإنكليزية تُنتج يومياً نصف مليون مصطلح، والفرنسية 400 ألف مصطلح، والعبرية 350 ألف مصطلح. و"مكتب تنسيق التعريب" لم يُترجم منذ تأسيسه حتى 1990 إلا أقل من 80 ألف مصطلح. وتصدر في العالم 60 ألف مجلة علمية بكل اللغات، بينما لا تصدر مجلة علمية واحدة باللغة العربية، نتيجة للقصور العلمي الذي أصاب هذه اللغة ونتيجة على إبقائها لغة دينية، كما تُصرُّ على ذلك الأصولية-السلفية.5- اعتبار الأصولية-السلفية اللغة العربية الدينية المقدسة، لغة لا يجوز أن تتبنى المصطلحات العلمية، كما هي آتية من لغاتها الأصلية المختلفة، أو بتعريبها بكلمة واحدة، أو بنحتها. وبهذا تحكم الأصولية-السلفية على اللغة العربية، بأنها لغة غير قادرة على نقل العلوم العصرية إليها. لذا، فالمجمعات اللغوية العربية، تقوم بترجمة هذه المصطلحات ترجمة غير دقيقة، بل مضحكة في بعض الأحيان، مما يفقدها معناها الصحيح الذي جاءت به في لغاتها الأصلية. فمصطلح اللغويات Linguistics -مثلاً- تمّت ترجمته إلى العربية بثلاثة وعشرين اسماً، ولم نهتدِ بعد إلى اسم نوافق عليه جميعاً. والأمثلة كثيرة.6- لتحديث اللغة العربية ثمن باهظ نفسياً، وهذا الثمن جرح أليم، يتمثل بقطيعة اللغة العربية المعاصرة مع عوائقها الأصولية المعرفية، والتنكر لقانون التطور الذي يتجسد في تكفير اللحن والدخيل لغوياً، وهي قطيعة لا مناص منها، إذا أرادت اللغة العربية أن تتمكن من الاندماج في سياق هذا القانون ببنية مجددة، تولد بها ولادة ثانية، على غرار العبرية، عملاً بالمبدأ البيولوجي "التدمير الخلاق". وفي هذا المنظور، ينبغي التفكير العميق في تثوير اللغة العربية، الذي هو الثمن الذي لا بُدَّ من دفعه، لانتشالها من وهدة الانحطاط التي تردت فيها، منذ نفاها "الاحتلال العثماني" من الحياة العلمية، والإدارية، والثقافية، بالتتريك، لسجنها في أداء الشعائر الدينية لمدة أربعة قرون (1517-1918). وهو ما تريده الأصولية-السلفية، المصابة برُهاب الحداثة، والتي أعادت اللغة العربية إلى سجنها في أداء الشعائر الدينية فقط.* كاتب أردني