على عكس ما يتوقع كثيرون، فإن برلمان مصر المقبل لن يكون معبراً جيداً عن ثورة 25 يناير، كما لن يكون بمقدوره أن يعكس عمق التحولات التي أحدثتها، أو الحظوظ القوية لبعض التيارات التي استفادت من انهيار النظام السابق، بل لن يكون بمقدوره أيضاً القضاء تماماً على نفوذ الحزب الوطني المنحل في الحياة السياسية في البلاد.
فمن المفترض أن يتم فتح باب الترشح لانتخابات مجلس الشعب يوم 12 أكتوبر الجاري، وبالتالي سيصعب جداً اتخاذ قرارات مصيرية مثل "تفعيل قانون الغدر"، الذي وافق عليه مجلس الوزراء، لكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قال إنه "ما زال تحت الدراسة". قانون الغدر" هو قانون قديم تم سنه في عام 1952، وتم استخدامه كأداة قانونية للتطهير السياسي إبان عهد ثورة يوليو، التي قام بها الجيش في العام نفسه، لكنه لم يعد بعدها إلى ثكناته، بل واصل الحكم لتحقيق أهداف ثورته، وهو الأمر الذي استلزم إبعاد مناوئيه من أقطاب النظام السابق عبر قوانين ومحاكمات وإجراءات سياسية.لم يقم الجيش المصري بثورة 25 يناير بالطبع، لكنه انضم إليها وبذل جهوداً ضخمة لحمايتها وضمان استمرارها، ووافق، على مضض، على تصفية بعض أركان النظام السابق، وإرسال أقطابه إلى المحاكمة. وبالتالي، فإن الجيش في تلك الثورة لم يكن هو المبادر إلى تصفية فرص النظام السابق في البقاء في الحياة السياسية، بل سعى في أحيان كثيرة إلى إشراك بعض أقطابه في المشهد السياسي بقوة؛ مثل تركه الفريق أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء في عهد مبارك، في موقعه، قبل أن يوافق على استبعاده تحت الضغوط العارمة، أو موافقته على أن يشكل عصام شرف الحكومة رغم كونه كان وزيراً في إحدى حكومات مبارك، أو إبقائه بعض الوزراء من حكومات العهد السابق في مواقعهم.تشير المتابعة الفاحصة لأداء المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير شؤون مصر في المرحلة الانتقالية إلى رغبته في الحفاظ على الثورة، باعتبارها مبرر وجوده في موقعه الآن، ودليلاً على أنه لم يخرق قوانين الواجب والولاء العسكري حين انحاز إلى الشعب على حساب القيادة.كما تشير أيضاً إلى أنه لا يفضل النقلات السريعة الواسعة التي قد تقفز به وبالدولة إلى المجهول، أو تزعزع البيئة الداخلية بما يخل بقدرته على أداء واجباته الأساسية ويعرضه للضغط الخارجي، أو تساعد على خطف الدولة لمصلحة تيار ديني متشدد يخالف معتقداته وأفكاره المبدئية عن الجامعة الوطنية والنزوع نحو الحداثة، أو تستفز أركان النظام السابق الباقية خارج السجون والتي يمتلك بعضها مالاً وخبرات وعصبيات يمكن أن تصعب الأمور عليه.ولذلك، فإن الجهد الرئيس للمجلس في عملية الترتيب للانتقال الديمقراطي انصب على محاولة إطالة المرحلة الانتقالية بقدر الإمكان، ليس، كما يقول بعض النقاد اللاذعين، لتوطيد الأمور لبقائه في الحكم، ولكن لضمان أن تتم الانتخابات في أجواء لا تسمح بخطف البرلمان أو الرئاسة لمصلحة جهة أو تيار يمكن أن يُصدر له المشكلات.وفي الوقت ذاته، حاول الجيش أن يعطي الفرصة لبعض التيارات المدنية الجديدة التي برزت خلال الثورة للعب أدوار على الأرض تحسن حظوظها في حال خاضت الانتخابات البرلمانية. ويجب عدم استبعاد فكرة أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة ليس حريصاً على إقصاء بعض أعضاء الحزب الوطني المنحل، خصوصاً إذا كان هؤلاء من الصف الثاني في ذلك الحزب، وإذا كانوا من رجال الأعمال النشطاء أو القبليين أصحاب العصبيات الكبيرة والوجاهة الاجتماعية والقدرة على تحقيق الضبط الاجتماعي وتقليل الضغوط على الأمن، خصوصاً في مناطق الأطراف التي تشعر السلطة المركزية بصعوبة عادة في الوصول إليها والنفاذ عبرها.واستناداً إلى ما سبق، يتضح أن استراتيجية المجلس لم تكن سوى إطالة أمد الفترة الانتقالية، والمراوغة في الاستجابة للمطالب بـ"العزل السياسي" لأعضاء الحزب الوطني المنحل، وتشجيع الأحزاب والحركات المدنية الجديدة على الانخراط في الحياة السياسية والانتخابات، وتقسيم الدوائر وإصدار قانون الانتخابات بشكل يفضي إلى برلمان للمشاركة لا للمغالبة. أفضل ما يمكن أن يحصل عليه المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر برلمان لا يخضع لقوة غالبة، ولا يصطف وراء جماعة أو تيار، ولا يغير وجهة البلد تغييراً فارقاً، ولا يصبح قادراً على اتخاذ قرارات استراتيجية وتفعيلها، وبالتالي لا يتمكن من تشكيل هيئة لصياغة الدستور بشكل يحدد مسار البلاد وطبيعتها خلال العهد المقبل على نحو غير مألوف أو مقبول. إن هذا البرلمان يمكن أن يكون مشكلاً من نسبة تراوح ما بين 25% إلى 35% من الإسلاميين غير المتجانسين بالضرورة (أغلبية من جماعة "الإخوان" إضافة إلى بعض السلفيين والجماعات الإسلامية الأخرى)، ونحو 20% إلى 30% من الأحزاب المدنية العلمانية القديمة والحركات والأحزاب الجديدة، ومثلها لبعض منسوبي الحزب الوطني المنحل الذين توزعوا على بضعة أحزاب جديدة، وأخيراً بعض المستقلين.لكن مثل ذلك البرلمان يمكن أن يشكل أضراراً في المقابل، فعدم وجود أغلبية واضحة فيه سيحرم البلد من وضع رؤية متكاملة والاحتشاد لتنفيذها للخروج من الأوضاع الحرجة الراهنة، وسيوقع المجلس رهينة للتجاذبات والمناورات السياسية، وقد يأخذه إلى تأزيم وتضارب يقوده إلى الحل، وبالتأكيد سيضعف قدرته على الوفاء بأحد أهم أدواره، ألا وهو موازنة سلطات رئيس الجمهورية والرقابة على أداء السلطة التنفيذية. وأخطر ما ينطوي عليه هذا الوضع أنه يمكن أن يسلم البلاد إلى مرحلة من التخبط والجمود في حال تمت صياغة الدستور بشكل يحد من سلطات رئيس الجمهورية بشكل كبير، وبالتالي يكون لدى مصر رئيس موحد الرأي بسلطات محدودة، وبرلمان بسلطات أوسع لكنه منقسم وغير متجانس وغير قادر على الحشد وتركيز الأفعال. من المهم أن تكون الانتخابات البرلمانية المقررة في 28 نوفمبر المقبل نزيهة وعادلة، وأن تشهد إقبالاً على المشاركة يعكس الروح السياسية الجديدة في البلاد بعد إنجاز الثورة، وهي مكاسب مهمة تبدو قابلة للتحقق، لكن أن يكون البرلمان المقبل برلمانا لمصر ثورة 25 يناير قادراً على نقل البلاد إلى "مصر الجديدة"، فهو أمر لا يبدو سهل المنال.* كاتب مصري
مقالات - زوايا ورؤى
مصر... برلمان بلا سلطان
09-10-2011