لم يكن الشاعر إزرا باوند عرّاب حداثة في النصف الأول من القرن العشرين فقط، بل كان رجل فاعليات عدة. كان شاعراً، ناقداً، مترجماً، معنياً بالموسيقى، والفن التشكيلي، سياسياً بفاعلية خطرة. وكان إلى جانب هذا كاتب رسائل من الدرجة الأولى. والرسائل الشخصية في الأدب الانكليزي ذات مكانة خاصة لدى القراء، لأنها بانوراما الشخصية الأدبية في كل تفاصيل حياتها وإنتاجها ومواقفها. وهي بالإضافة إلى ذلك بريئة من العناية الأسلوبية، التي تتصف بها الكتابة الإبداعية، بصورة عامة. لذا نتوقع من أسلوبها عفوية خاصة. ولكن هذه الرسائل الشخصية الانكليزية لا تتصف بالغنى فقط، بل بالغزارة التي تبدو للقارئ على شيء من الغرابة. رسائل إزرا باوند ليست استثناءً، بل لعلها تقف في المقدمة.

Ad

حين أصدرت دار أوكسفورد المجلد الرابع من رسائل الشاعر ييتس، بعد 25 عاماً من صدور المجلد الأول، كانت قد أعلنت أن الرسائل كاملة ستكون في 14 مجلداً. وهذا يعني أن أمر الدرس والتحقيق سيحتاج من المحررين قرابة ستين عاماً قادمة. رسائل إزرا باوند أكثر غزارة من رسائل ييتس. ولعل ستين عاماً قادماً لن تكون كافية لإنجاز كل مجلداتها. ولك أن تتخيل.

صدر العديد من هذه الرسائل في كتب يقتصر كل واحد منها على شخصية واحدة ذات علاقة بباوند: جويس، ويندهام لويس، كامنغس، وليمز كارلوس وليمز وعشرات آخرين. الكتاب الجديد الذي صدر مؤخراً يضم رسائل باوند إلى أبويه، حتى عام 1929 (العام الذي انتقل فيه الأبوان من نيويورك إلى لندن، ليكونا بالقرب من ابنهما). الكتاب في 850 صفحة، وترد فيه أسماء قرابة 2000 شخصية تجدها تتزاحم في فهرست الأعلام. ولأن باوند ولد في 1885، وشرع في كتابة الرسائل لوالديه مذ غادرهما قرابة مطلع القرن العشرين، فهذا يعني أن رسائل هذا المجلد لوالديه كانت نتاج ربع قرن من الزمان فقط. ولك أن تضيف لها مجمل الرسائل التي كتبها لآخرين في الفترة ذاتها. المحصلة ستكون حفنة ثقيلة من الرسائل كل يوم، تجعلنا نعجب كيف كان باوند، بحاجته المالية الدائمة لوالديه، يتدبر أمر طوابعها!

في دراسته دخل باوند دورات جامعية عدة، وحقول معارف متنوعة. ولكنه لم يكن صاحب مزاج أكاديمي. في 1908 سافر إلى لندن، ثم إلى فينيسيا. وهناك نشر شعره أول مرة. ولا تتوقف رسائله لأبيه عن طلب العون، لا المالي فقط من أجل شراء الكتب والملابس والاشتراك في المجلات، بل العون في ملاحقة محرري الصحف والمجلات ودور النشر، من أجل نشر نتاجه الشعري والأدبي. وإذْ يُطربك هذا الرفق الأبوي الصبور في رعاية ابن تجاوز سن الشباب، يأخذك صلف الابن الذي لا ينقطع في الملاحقة المرهقة لأبوين رؤومين. ولكن هذا الابن ناشط في حقل المعرفة والابداع بصورة تبدو فريدة تماماً. ولعل الأبوين يتقنان معرفة ذلك.

من لندن كتب لأبيه:

«أحسب أني بدأت أرى ضوء النهار إذا ما واصلت بمواصلة صمام الأمان بضعة أسابيع أخرى. لدي شعور مبهم بأني سأحقق نجاحاً. لا تذكر هذا لأحد! بالنسبة للملابس التي أشرتَ إليها بلطف، أحسب أني أحتاج عدداً منها. بدلة اقتصادية أظن أنها تكفي لفترة طويلة، سترة خفيفة ملونة وذات رتوش قليلة. ولكن إذا لم تكن هناك 20 دولارا في المتناول فأستطيع أن أكتفي لفترة من الزمن بقبعة، سترة وبضعة أربطة عنق جديدة. ولك أن ترسل لي ملابسي الداخلية الشتائية... الخ».

غزارة الرسائل تنطوي على غزارة المعلومات التي تشكل حياة واحد من أهم رواد الشعر والأدب الحديثين. تلاحق فيها تعرّف باوند على أعلام مرحلته، وفاعليته في التأثير المتبادل بينهما. كما تلاحق الينابيع التي شكلت مجرى الــ»كانتوس»، كتابه الشعري الضخم. وهي من جانب آخر تكشف عن بضعة أسرار في علاقاته الغرامية، وحقيقة أن عمر ليس ابنه، بل ابن رجل كان ذا علاقة بزوجته دوروثي. في حين كان هو ذا علاقة بامرأة تُدعى أولغا، رعته حتى آخر حياته.