هدد موظفو النفط بالإضراب فكان لهم ما أرادوا، وأضرب موظفو الجمارك و"الكويتية" فحصلوا على مبتغاهم، "برافو"، فحكومتكم لا تعرف سوى هذا الأسلوب والطريقة في التعامل، أما انتظار أن تبادر من نفسها لتقوم بمراجعة رواتب الجهات المهضومة حقوقها، فهذا ما لا يمكن حدوثه في حكومة الكسل والنوم في العسل!

Ad

لقد كان بإمكان الحكومة "الرائعة" ألا تجعل الأمور تصل إلى هذا الحد لو عالجت موضوع الكوادر بالضغط على ديوان الخدمة المدنية الذي طلب منه منذ 5 سنوات إنجاز دراسة الرواتب والأجور لكل موظفي الدولة وربطها بطبيعة الوظيفة والتخصص دون أن ينجز شيئا، وهو أمر تعود عليه الموظف البسيط، حيث التعامل مع كل ما يخص حقوقه بإهمال وتسويف وتأجيل إلى ما لا نهاية، حتى وصل الأمر به إلى الإضراب والعصيان المدني، حيث أدرك أنها اللغة الوحيدة التي تفهمها حكومته!

والذي يلوم الموظفين المضربين فإن عليه أن يتخيل نفسه واحدا منهم، يطالب منذ سنوات بزيادة مئة أو مئتي دينار دون أن تلتفت له حكومته الرشيدة، ثم يأتيه زمن أغبر يقرأ فيه أخبار الإيداعات المليونية والتحويلات الخارجية لأموال الدولة التي تحولت إلى عيديات توزع هنا وهناك ثمنا للموالاة السياسية دون أن يصيبه من الحب جانب، وهو الموظف الذي يأخذ راتبه نظير جهد مبذول لا نظير استماتته في الدفاع عن حكومة فاشلة!

والواقع أن هناك رابطا بين هوجة الإضرابات الأخيرة وفتنة الإيداعات المليونية والتحويلات الخارجية، فالناس أصابها القهر وهي ترى أموال الدولة تطير في الهواء، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير وجعلت صبر الموظف البسيط ينفد، وهو الذي كان يصدق أعذار الميزانية المنهكة ببند الرواتب مستشعرا واجبه الوطني نحوها، أما الآن فلسان حاله يقول: لست كبش الفداء أيتها الميزانية العزيزة، عليك بمن هبشوا منك الملايين، وعليك بمن يسر لهم هبشها... اسمحي لي!

***

حذرت في مقالات سابقة من تحول الثورات العربية من ثورات هدفها التخلص من الظلم والقهر والفقر والتخلف الذي تمثله الأنظمة الحاكمة إلى ثورات شخصانية كل هدفها القضاء على الحاكم المستبد وليكن بعدها ما يكون، فالأمر لا يهم كثيرا ما دام الجلاد قد وقع بين الأيدي وتم الانتقام منه، والبركة في الموجود! والشعب الليبي الشجاع الذي قدم تضحيات كبيرة خلال الشهور الثمانية الماضية وقام بتحرير بلاده من الزمرة الفاسدة التي سيطرت عليه لعقود يبدو لي أنه قد وقع في الفخ الذي حذرت منه، ويسير دون شعور منه نحو تكرار تجربته المريرة التي عاشها زمن القذافي وذلك بحلول مستبد "ناشئ" محل سابقه، يجلس على كرسي حكمه "المؤقت" القابل للتمديد ليفرض على الشعب ما يشتهي ويريد دون مشاورة أحد منهم!

فقد أعلن رئيس المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا "مصطفى عبدالجليل" قبل أيام أن "الشريعة الإسلامية ستكون المصدر الأساسي للتشريع" وأضاف "نحن كدولة إسلامية اتخذنا الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع ومن ثم فإن أي قانون يعارض المبادئ الإسلامية للشريعة الإسلامية فهو معطل قانونا"!

والاعتراض هنا ليس على تطبيق الشريعة أو على اعتبار الدولة إسلامية ما دام اختيارا شعبيا، إنما على التفرد باتخاذ القرار دون الرجوع إلى برلمان يمثل الشعب ويشرع القوانين التي تحفظ  حقوقه، أي أن الشعب الليبي بعد كل العناء الذي قام به يجد نفسه أمام "فرد" آخر يقرر مصيره نيابة ووصاية عنه!

إنه مشروع طاغية في طريقه للظهور إن لم يتم إيقافه عند حده، وإفهامه بأن صلاحياته لا تتجاوز القيام بأكثر من تسيير أمور الدولة حتى قيام انتخابات حرة نزيهة، أما إن تم التجاوز عنه و"تفويتها له" فسوف يتمادى في الأمر ويخرج الشعب الليبي من مولده بلا فائدة تذكر وتبقى الحال على ما هي عليه... حتى قيام ثورة أخرى!