الانتخابات الفرعية، أو ما نسميه بالفرعيات، وهي المجرمة قانونا، وتم الحكم بدستورية قانون تجريمها من قِبل المحكمة الدستورية منذ أيام قليلة، ليست في الحقيقة سوى عرض واحد، من أعراض عديدة، تكشف مرض نظامنا السياسي.

Ad

عرض "الفرعيات" يكشف حقيقة أن نظامنا السياسي في مجمله قائم منذ القديم على المحاصصة القبلية والطائفية والفئوية، وهذا النهج المستمر، سواء في تشكيل الحكومات المتعاقبة، والتي لطالما قامت على توزيع الحقائب الوزارية وفقا للانتماء القبلي والطائفي، ليصير لهذه القبيلة مقعد ولتلك مقعد ولهذه الطائفة مقعد، وهكذا دواليك، وكذلك في توزيع مناصب الدولة العليا، وبالأخص مناصب الوكلاء المساعدين في مختلف الوزارات، وغيرها، أقول إن هذا النهج في المحاصصة هو الذي دفع القبائل والكتل الفئوية كي تحرص أشد الحرص على أن تضمن وصول مرشحيها إلى البرلمان، لتظهر أمام النظام أن لها وجودا عدديا مؤثرا، قادرا على إيصال عدد مؤثر، أو على الأقل واحد من المرشحين للبرلمان، وبالتالي فإنها تستحق أن تدخل في دائرة المحاصصة، ليكون من أبنائها الوزراء والوكلاء والمديرون، إما طواعية، وإما من خلال ضغط هؤلاء المرشحين، بعد وصولهم إلى البرلمان، على الحكومة، وهم الذين سيشكلون كتلة أقوى تأثيرا في الحكومة، كلما كان عددهم أكبر بطبيعة الحال. في ظل هذا الواقع، الذي كشف للناس، أنه كلما كان وجودك الفئوي أكثر متانة في البرلمان، زادت مهابتك في عين النظام وسيحسب لك حسابا أكبر، كان من الطبيعي أن يلجأ الإنسان إلى تعضيد عصبته القبلية والطائفية، لتكون سبيله للحصول على حقوقه، وعلى ما يظنها حقوقه، وأيضا للحصول على ما يريده ويشتهيه من مناصب وفرص وظيفية وابتعاث للخارج للدراسة أو للعلاج، وغير ذلك من الخدمات التي يُفترض أنها لعموم المواطنين وفقا للاستحقاق والكفاءة والحاجة، ولكن تم تحويلها على يد النظام إلى ما يشبه الهبات والعطايا، وكل ذلك على حساب المواطن العادي غير المرتبط بهذه العلاقة غير السوية بين النظام وفئات المجتمع العرقية والطائفية المختلفة!

هذا الواقع المعتل، أدى إلى مشكلتين: الأولى هي أن القبائل، صارت تؤمن بشكل عميق بأن الفرعيات هي حق أصيل من حقوقها، وأنها من ضمانات وجودها وتمتعها بالوجود على هذه الأرض، وأنها مستمرة في التعاطي بها، سواء قَبِل القانون بذلك أو لم يقبل، وستمارسها حتى الرمق الأخير. والمشكلة الثانية، أن الفئات المجتمعية الأخرى، والتي لم تكن يوما من الأيام مرتبطة بالشأن القبلي أو العصبية العرقية أو ما شابه، اضطرت أن تلجأ بدورها إلى تعزيز انتمائها المشابه حتى يكون لها موطئ قدم على خشبة مسرح المحاصصة! هذه هي الصورة الحقيقية، ولهذا على الصادق في مساعيه للتصدي للفرعيات أن يدرك أن هذا الأمر لن ينجح بتاتا من خلال سن القوانين، ولا من خلال التصدي الأمني، على الرغم من أهميتها، حيث ستظل هناك ألف طريقة وطريقة للهروب من التجريم، وللتحايل على القانون طالما لم يكن هناك إيمان حقيقي بخطئها من قبل ممارسيها، وطالما استمر أبناء القبائل يرون أنها سبيلهم الأول للوجود المؤثر في الساحة.

وأعتقد أن سجل التجارب السابقة يثبت أنه لم يتم تجريم أحد يوما على خلفية المشاركة في الانتخابات الفرعية، بالرغم من أن الجميع يدركون أنها لطالما عقدت وجرت. لا سبيل يا سادتي للتخلص من الانتخابات الفرعية إلا من خلال إفراغها من قيمتها، أي حين يصبح الوجود العددي الأكبر لأي فئة عرقية من الناس على هذه الأرض لا يعطي أبناءها أي امتياز بالمقارنة مع أي فئة عرقية أخرى، إلا بمقدار المواطنة الصالحة والكفاءة والعطاء على المستوى الفردي، وحين تصبح المناصب والامتيازات متاحة لكل مواطن وفقا لاستحقاقه وجدارته، لا وفقا لعرقه وانتمائه القبلي أو الطائفي. عند تلك المرحلة التي سيدرك الناس جميعا أنهم في أمان تحت مظلة الدولة الجامعة بنظامها العام العادل تجاه الجميع، وأنهم ليسو بحاجة لإبراز انتماءاتهم العرقية لأي سبب كان، سيتخلون طوعا عن هذه الانتخابات الفرعية وسائر تلك الممارسات الفئوية، لأنها ستغدو حينها بلا قيمة، ومجرد مضيعة للجهد والوقت.