الفنانة فاتن حمامة إحدى الشخصيات التي ترد إلى الذهن ما أن نذكر السينما المصرية، فهي تتجاوز المكان الذي شغلته كممثلة من الطراز الأول إلى المكانة التي بلغتها كرمز ومعلم من المعالم الرئيسة في صدارة هذه السينما.

Ad

وفي عيدها الثمانين نحتفي بها وندعو إلى احتفال كبير يليق بها، يشمل إعادة مشاهدة وتأمل في رصيد  فاتن (وُلدت في مدينة المنصورة في 27 مايو 1931) من الفن الجميل الصادق الممتع، وإصدار دراسات تلقي نظرة متأنية وتكتشف بدقة أسلوبها ومدرستها في الأداء ومراحل هذه المدرسة من النضج والتطوير وأسباب استمرار تألّق فاتن ومكانتها الخاصة وتأثيرها الدائم.

من اللافت، في مسيرتها، حضورها القوي والمشعّ  في الحياة الفنية والثقافية وفي المجتمع، سواء قدمت أعمالاً أو توقفت كما حدث في السنوات الأخيرة. وهذا الحضور وذلك الإشعاع، لا بد لهما من مرجع وتفسير، إذ ليسا مجرد حضور وإشعاع لممثلة تتقن وتقنع، أو لمجرد أنها تتمتع بـ «كاريزما» وجاذبية شخصية.

ربما «الدور» الذي «مثلته» في هذه السينما، وهو أكبر من كل الأدوار في أفلامها، ونعني دور القيمة الكبيرة التي ساهمت في منحها

لـ «المرأة» في مصر، المرأة كفنانة وممثلة على الشاشة السينمائية، والمرأة كإنسانة في المجتمع التي جسدتها فاتن على الشاشة.

فاتن حمامة، هي فاتن المحترمة، فاتن القيمة، كإنسانة وفنانة.

عبّرت فاتن برهافة عن المرأة المصرية في مراحلها المختلفة في النصف الثاني من القرن العشرين، فهي، في البداية، البنت المسكينة المكسورة الجناح والبريئة في مهبّ الرياح، هكذا رأيناها مبكراً في أفلام حسن الإمام وسواه بطابع سينمائي ميلودرامي، وسط عالم تتحكم به المصادفات وتقود الظروف الإنسان وتؤثر فيه ولا يقودها أو يؤثر فيها. عبّرت فاتن عن تلك المرحلة، بدقة وإحساس فني صادق، فدخلت القلوب.

 بعد ذلك، رأيناها في سينما ما بعد ثورة يوليو 1952 تعلن تمرّد تلك البنت على الظروف كافة في فيلم «الباب المفتوح» إخراج بركات عن رواية الأديبة المتمردة د. لطيفة الزيات تحمل العنوان نفسه، وها هي البنت المصرية الجديدة المقتحمة تتمرد على الظروف وتقودها هي وتؤثر فيها ولا تستسلم لسطوة أب أو زوج أو مفاهيم مجتمع بالية تحطّ من قدر المرأة ودورها أو من قدر الإنسان عموماً.

انطلقت أدوار فاتن، من «اليتيمتان» للمخرج حسن الإمام و{بين الأطلال» الذي يتميّز بطابع رومنسي ميلودرامي للمخرج عز الدين ذو الفقار عن قصة يوسف السباعي، إلى عالم «الباب المفتوح» وإلى دراما الوطن والحبّ والحرية في «لا وقت للحب» فيلم المخرج صلاح أبو سيف عن قصة يوسف إدريس، الذي يعكس مشاركة المرأة المحبّة ليس كشريكة حياة ورفيقة زواج للرجل الذي تحبه فحسب، لكن تشاركه في عمله الوطني الفدائي لتحرير الوطن من المحتل البريطاني ونيل الحرية والعدالة لجميع المواطنين، وصولاً إلى فاتن، في «أريد حلاً»، فيلم المخرج سعيد مرزوق، منّ الله عليه بالشفاء، وتدافع فيه عن حقّ المرأة في الاستقلال أو الانفصال عن الرجل، وتظلّ دعوتها من أجل الحقوق الشخصية للمرأة في هذا الفيلم مدوية عبر الشاشة ومؤثرة في المجتمع، بل وقادرة على الضغط باطراد لتغيير قوانينه لتصبح أكثر عدلاً وإنسانية.

ومن ذرى أدوار فاتن، شخصية آمنة في فيلم «دعاء الكروان»، وعزيزة في فيلم «الحرام» وكل منهما للمخرج الكبير هنري بركات.

في «دعاء الكروان»، عن قصة الدكتور طه حسين، تتراوح مشاعر البطلة، بإحساس داخلي كامل وأداء مدهش لفاتن، بين الرغبة العارمة في الانتقام من المهندس (أحمد مظهر) الذي أغوى شقيقتها وتسبّب في مقتلها على يد الأهل ثأراً للشرف، وبين وقوعها في هوى الرجل نفسه، فقاومت بصدق حبها وحبه إلى النهاية المؤثرة القاسية في فيلم رومنسي عظيم، يعدّ أحد أحسن عشرة أفلام في تاريخ السينما المصرية.

أما «الحرام» فهو مأخوذ عن قصة يوسف إدريس تحمل العنوان نفسه، ويقدّم دراسة اجتماعية سياسية ويؤدي دور جراح (والأديب طبيب أصلاً) في المجتمع عندما تبلى أحواله وتتعفن وتسوده أمراض الظلم الاجتماعي والتفاوت الطبقي الصارخ (من خلال نماذج عمال التراحيل).

 ويهزأ إدريس والفيلم من المفهوم الذي يجعل «الحرام» يقتصر على وقوع شابة في معصية في ظل ظروف قاسية وحاجتها إلى المال من دون أن يصل بـ «الحرام» إلى الجرم في شموله والحرام الحقيقي الذي يطيح بكرامة وآدمية ملايين من البشر يكدحون وينهارون تحت السياط من أجل فتات يقتاتون عليه، ويمسك الفقر والمرض والجهل بخناقهم من كل جانب.

برعت فاتن كالعادة في دور عزيزة، ومنحتنا إسهاماً وثراء أكبر في سجلها الإبداعي الحافل، وهي تستحق، في عيدها الثمانين، أكثر من احتفال وأجمل وأصدق ما بالإمكان من تقدير وامتنان وردّ الجميل.