الحكومات التي رعت الثقافة الموجهة وحملت عبء تعليم الأجيال الولاء والطاعة كانت حكومات ذكية ربما دون قصد وربما بقصدية واضحة. في الحالتين هي حكومات ناجحة بامتياز بخلق مساحات من الفراغ خلفها لا يمتلك من يفكر في الثورة عليها ملء تلك المساحات.

Ad

كان العسكر يستطيعون الانقلاب على العسكر وغير العسكر ونشر الدبابات والسلاح أولاً، ثم يتجهون نحو الأقلام والأعلام والتربية لخلق أجيال من الطلائع والفتوات المثقفة تحمل سلاح الكلمة للدفاع عنها وتكريس سطوتها. نجحت الثورة في مصر نجاحاً جزئياً حتى الآن بإسقاط النظام تحت حماية ذات العسكر ومازالت الشعوب المتظاهرة لإسقاط النظام الذي سقط بالأمس تتظاهر لإسقاط بقايا النظام دون أن تمتلك القدرة الكافية على ملء المساحات الشاسعة من الفراغ الذي خلفته الأنظمة المسقطة حتى لا أقول الساقطة.

ولأن الشعب لم يكن يمتلك أساسيات ترتيب أوضاع تراكمت بحكم السنين الطويلة للأنظمة فهو بحاجة إلى مفكريه الذين كما يبدو يعيشون حالات من الارتباك والضياع. فهم أيضاً ضحايا البناء الفولاذي للنظام، وهم أيضاً عاشوا التذبذب بين عسل النظام وعلقم معارضته.

منذ يناير حتى اليوم لم تستطع عقول المعارضة ترتيب أوضاعها وتجهيز أحزاب بديلة قادرة على الإقناع وإيجاد البديل الذي يمتلك كاريزما القيادة. منذ يناير حتى اليوم والمساحات خالية إلا من صوت الشباب المتظاهرين الذين يدخلون عملية التغيير أكثرهم كان ممن يطالب الشباب بتغييره.

الأنظمة العربية كانت تعي أن وجود البديل المنافس ولو بنسبة ضئيلة من فرص النجاح يعني سرعة زوالها وسرعة التحام المعارضة به فحاولت جاهدة وناجحة في قمع وشراء وتهجير تلك الأصوات حتى لا يبقى هناك إلا الصوت الذي يغرد لها والصوت الذي يحمل وجهاً يعارضها علناً ويقبلها سراً.

الصورة اليوم ضبابية ولا تمنحنا شيئاً من الضوء لنرى المستقبل الحقيقي للثورة في تونس أو مصر، وهي كذلك في اليمن وسورية. والشعب يثور نحو التغيير ولا يعرف أكثر من ذلك. ليس بإمكانه تحديد الوجهة التي ستؤول إليها الأمور وإلى أين تتجه ثورته إذا نجحت. وضرورة التغيير هي المحطة الوحيدة كما يبدو التي سينتهي عندها ربيع الثورات العربية.

لكي تنجح الثورة فعلاً فإن الدور يقع على عاتق مفكري الأمة ورموزها السياسة، عليهم أن ينجحوا بترتيب منزلهم الداخلي وطرح مبادئ يؤمن بها الشباب ويقف دفاعاً عنها في الوقت ذاته الذي يقف صارخاً من أجل التغيير. حتى اليوم تنجح الحكومات التي لم تسقط بعد بتصوير الثوار بمجاميع إرهابية ورموز تخريبية وأن من يقف وراء ثورتهم جهات أجنبية لها أجندات خارجية. وهو نجاح سببه الرئيس انعدام الصوت الثاني وانسحاب المفكر والمعارض عن الساحة التي مهدتها الثورة. ففي الوقت الذي يصرخ فيه الثوار بحثاً عن أصواتهم لا نرى إلا الأصوات الخارجية، وهي أصوات هجّرها النظام وأدانها مسبقاً بتهم العمالة والتخريب.

ليس لثورة أن تنجح، وإن نجحت في خطوتها الأولى من التغيير، ما لم تجد مفكريها يصنعون مستقبلها ويخططون لملء الفراغ الذي أحدثه هذا التغيير.