يريد «الإخوان» و«السلفيون» استغلال هذا الزخم والخلط والتدليس، والوصول إلى الانتخابات سريعاً، وهزيمة التيارات الوطنية الأخرى، بدعوى أن من يمثلها «علماني منكر للوحدانية، أو ليبرالي منحل تارك للشريعة»، قبل أن يحتلوا المناصب كلها، ثم يصوغوا دستوراً يجعل من مصر مصرستان.

Ad

 تشتعل في مصر معركة كبيرة الآن تغطي بتفاعلاتها على غيرها من المعارك والقضايا المحتدمة؛ إنها المعركة التي تقسم قوى الثورة وغيرها من القوى السياسية التقليدية والمحدثة في البلاد، وتدور حول السؤال المحوري: الدستور أولاً، أم الانتخابات أولاً؟

كان المجلس العسكري، الذي يدير شؤون البلاد منذ أن خُلع الرئيس السابق مبارك، قد أجرى استفتاء على تعديلات دستورية محدودة في شهر مارس الماضي، وقد وافقت أغلبية كبيرة على تلك التعديلات، وهو الأمر الذي اعتبرته القوى المؤيدة لنتائج الاستفتاء موافقة صريحة على خريطة الطريق التي وضعها المجلس لتنفيذ عملية الانتقال السلمي الديمقراطي، عبر تسليم مقاليد الأمور لسلطة مدنية منتخبة ديمقراطياً.

لكن المجلس العسكري نفسه هو الذي اتبع الاستفتاء بإصدار إعلان دستوري متكامل، يضم عشرات المواد الدستورية التي لم يتم الاستفتاء عليها أصلاً، وبالتالي فقد فهم المصوتون بـ"نعم" في الاستفتاء، أو أحبوا أن يفهموا، أن إصدار الإعلان الدستوري ليس سوى خطوة تكميلية تستند إلى نتيجة الاستفتاء، بينما اعتبر المصوتون بـ"لا" أن صدور هذا الإعلان بمنزلة "عودة إلى الحق"، حيث كانوا قد نادوا برفض التعديلات الدستورية أصلاً، باعتبارها تعديلات على دستور 1971، الذي سقط بالضرورة مع سقوط النظام، مطالبين بإعلان دستوري يقنن لفترة انتقالية تحتاجها البلاد، وهو ما حدث بالفعل.

كان الوضع عقب صدور الإعلان الدستوري غريباً، لقد ربح القائلون بـ"نعم" في صناديق الاستفتاء عبر أصواتهم الأكثر عدداً بمراحل، فيما ربح القائلون بـ"لا" نتيجة الاستفتاء، إذ ذهبت السلطات إلى إصدار الإعلان الدستوري الذي سبق أن طالبوا بالبدء به فعلاً.

لكن الخلاف كان قد اندلع، ولم يهدأ لحظة، حول ما إذا كان يتعين علينا المضي إلى الانتخابات البرلمانية في سبتمبر المقبل وفق الإعلان الدستوري، ويليها انتخاب اللجنة التأسيسية لإعداد الدستور، والانتخابات الرئاسية، أم يجدر بنا أن نبدأ بإعداد الدستور.

يجب ألا يكون خيار "الدستور أولاً" محل خلاف في مصر اليوم؛ فالدستور هو "الأساس" القانوني والتعاقد السياسي والاجتماعي بين السلطات والمواطنين؛ ولذلك فمن الضروري أن يتم انتخاب جمعية تأسيسية لإعداده، وفق موازين القوى الجديدة التي أنتجتها الثورة، ووفق ما يتفق عليه التيار الرئيسي المصري الذي بلور مطالبه بوضوح، قبل أن تجرى الانتخابات.

سيكون إجراء الانتخابات قبل إعداد الدستور بمنزلة وضع العربة أمام الحصان، وستنشأ عن تلك الحالة مشكلات كبيرة؛ بعضها يتعلق بأن أعضاء البرلمان الذين سيتم انتخابهم ورئيس الجمهورية لاحقاً، سوف يحتلون مناصبهم من دون أن يعلموا استحقاقات تلك المناصب.

بل إن الناخبين أنفسهم سوف يتوجهون إلى الصناديق لينتخبوا مرشحين من دون أن يعرفوا حجم السلطات التي ستمنح لهم، وسبل مساءلتهم في حال أساؤوا استخدام تلك السلطات.

يشخص الدستور ثوابت الأمة، ويحدد حريات أبنائها، ويعين أركان السلطة، ويفصل طريقة اختيارها، ويوضح أساليب محاسبتها، ويقنن عملية الانتقال السلمي الآمن للحكم، وبالتالي فهو الذي يصوغ تفصيلات العمليات السياسية التنافسية، ويحدد مدد تولي السلطات؛ فيعين مدد رئيس الدولة، وكذلك فترة الدورة البرلمانية، بل يقنن الطريقة التي تراقب السلطات بها بعضها بعضا.

ويمكن القول إن المجال العام في مصر بات يدرك عمق الأزمة الراهنة، وخطورة المضي قدما في خيار الانتخابات أولاً ثم الدستور تالياً، بل إن الحكومة التي شكلها المجلس العسكري نفسه تبدو أكثر ميلاً إلى هذا الخيار.

والأمر ذاته ينطبق على معظم الحوارات القومية والوطنية التي جرت أخيراً لبلورة خريطة الطريق للانتقال السلمي الديمقراطي في البلاد.

ومما يعزز إدراك النخب المصرية لتلك الأزمة، أن البلاد لم تصل إلى حال أمنية تسمح لها بإجراء انتخابات عامة واسعة في ظل حال الانفلات الأمني الراهن، وتردد الشرطة في العودة إلى ممارسة عملها، وطاقة الثورة المصحوبة ببعض المغالاة، وطاقة العنف المستجدة المستندة إلى تفاقم أفعال التمرد في أعقاب إطاحة نظام استبد بالمصريين طيلة ثلاثة عقود، وهي العقود التي أفرزت أسوأ الممارسات الانتخابية على الإطلاق، إذ ارتبطت الانتخابات بالرشى، والعنف و"البلطجة"، والتزوير، وتواطؤ الشرطة والسلطات المحلية، والدعاية الرديئة، وسوء الاختيار.

لكن ما يجعل العودة إلى الحق في هذا الصدد صعبة أمران؛ أولهما أن المجلس العسكري قد لا يريد أن يبدو وكأنه أخطأ حين اختار مساراً يبدأ بالانتخابات أولاً واستفتى الناس عليه، أو أن يظهر كمن يرجع عن قرار مفصلي، كما أنه قد لا يكون مستسيغاً لفكرة إطالة الفترة الانتقالية التي ترهقه وتصرفه عن مسؤولياته المهمة في حماية الأمن القومي للبلاد.

أما الأمر الثاني، فيتعلق باللاعب المهم في المجال السياسي المصري اليوم، وهو الجماعات السياسية ذات الإسناد الإسلامي؛ وعلى رأسها طبعاً "الإخوان المسلمون" والسلفيون.

تخوض "الإخوان المسلمين" معركة، هي الأعنف على الإطلاق، لضمان إجراء الانتخابات في موعدها، محاولة استغلال تمركزها الجيد، وشعارها المثير للجدل "الإسلام هو الحل"، وضيق الوقت على الأحزاب الليبرالية واليسارية الجديدة، التي ما زالت تحاول جمع توقيعات المؤسسين وتوثيقها للحصول على ترخيص بممارسة نشاطها.

وإلى جانب "الإخوان" يسابق بعض السلفيين الزمن وصولاً إلى الانتخابات، إذ يتكفل الجهل والفقر والأمية والميل الفطري لدى قطاع من المصريين للانخداع ببعض دعاوى المتأسلمين، بتحسين حظوظ مرشحيهم.

كان "الإخوان" و"السلفيون" قوتين مهمتين رفضتا بوضوح الانخراط في ثورة 25 يناير عند الدعوة إلى اندلاعها، إذ تذرعت الأولى بـ"عدم قبول دعوات ترد عبر الإنترنت"، وإن وافقت لاحقاً على "المشاركة الشخصية لأعضاء الجماعة"، بينما استند قطاع من السلفيين إلى ضرورة "طاعة ولي الأمر وعدم الخروج عليه". لكن الأوضاع تغيرت بعد نجاح الثورة في إطاحة النظام السابق، إذ سعى الجانبان إلى الحصول على أكبر قدر من المكاسب، معتبرين أن الوصول إلى الانتخابات في تلك اللحظة سيمكنهما من حصد العدد الأكبر من الأصوات.

قبل يومين، تحدث قيادي سلفي عبر قناة فضائية رائجة قائلاً بوضوح: "من لا ينتخب مرشح رئاسة يطبق الشريعة الإسلامية ويرفع راية الإسلام ومعروفا بحسن سيرته فإنه يتحدى الله ورسوله"، بل زاد الرجل، ويدعى حسن أبو الأشبال، بقوله: "إن من ينتخب غير الإسلاميين فكأنه يقول لله يا رب إنك طالبت بتولي رجل مسلم أمر المسلمين، وأنا أعترض على هذا وأختار رجلا علمانيا منكرا لوحدانيتك أو ليبراليا يفعل كما يشاء دون قيد لشريعتك".

يريد "الإخوان" و"السلفيون" استغلال هذا الزخم والخلط والتدليس، والوصول إلى الانتخابات سريعاً، وهزيمة التيارات الوطنية الأخرى، بدعوى أن من يمثلها "علماني منكر للوحدانية، أو ليبرالي منحل تارك للشريعة"، قبل أن يحتلوا المناصب كلها، ثم يصوغوا دستوراً يجعل من مصر مصرستان.

* كاتب مصري