إذا كنت دائم التحدث إلى مصريين في هذه الأيام، فلا شك أنك تعرف أن أكثر ما يشغلهم الآن هو السؤال: "ماذا سيحدث في 25 يناير؟".
شيء غريب بالطبع أن يكون مثل هذا السؤال هو الشغل الشاغل للمصريين قبل أقل من أسبوعين من مرور عام على ثورة يناير؛ فالمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير شؤون البلاد منذ أُطيح مبارك في فبراير الماضي، أعلن بوضوح أنه سيجعل هذا اليوم "عيداً قومياً" للبلاد، ليصبح في منزلة أيام مجيدة أخرى مثل 6 أكتوبر يوم انتصر الجيش المصري على نظيره الإسرائيلي في معركة صعبة، ومثل يوم 23 يوليو، وهو اليوم الذي قامت فيه ثورة الجيش، التي بنت نظاماً ظل يحكم بلا انقطاع طيلة ستة عقود، ومثل يوم 25 أبريل عيد تحرير سيناء.عيد قومي إذن، وستوجه خلاله أفضل تحية إلى شهداء ثورة يناير، وستلقي الطائرات العسكرية هدايا من الجو على المواطنين لمشاركتهم البهجة والاحتفال، وسيغني المطربون على المسارح احتفاء بالثورة، وستقام المباريات والمهرجانات على مدى أكثر من أسبوعين، بما يليق وتلك المناسبة العظيمة.يبدو أن الإسلاميين، وعلى رأسهم "الإخوان المسلمون" و"السلفيون"، بعدما هيمنوا على نحو 70% من مقاعد البرلمان، سيذهبون إلى الاحتفال أيضاً، وقد أعلنوا حرصهم على تنظيم الخروج في هذا اليوم وضمان أمنه، وعدم خروج المسيرات والتظاهرات عن مسارها السلمي المطلوب، وبما لا يخل بالتطورات الدستورية التي أنجزتها ثورة يناير، أو يعرض المسار السياسي للخطر، خصوصاً أن مجلس الشعب سينعقد قبل حلول الذكرى السنوية الأولى للثورة بيومين، بما يؤكد أن ثمة تقدماً قد تحقق من وجهة نظر الإسلاميين، الذين جنوا معظم ثمار هذا التقدم عبر احتلالهم أغلبية مقاعد البرلمان.اليساريون والعلمانيون والليبراليون معظمهم يريد أن يكون 25 يناير يوماً للتظاهر من جديد، وبعضهم يريده يوماً للموجة الثانية من الثورة، وبعضهم يريده ثورة ثانية تحاول تحقيق النجاح بعدما "سُرقت الثورة الأولى أو فُرغت من مضمونها".سألت أحد الناشطين في تيار راديكالي بالثورة قبل يومين: ماذا ستفعلون يوم 25 يناير؟، فأجاب ببساطة: "سننزل، ونرى عددنا، ونرى طاقتنا، ثم سنفعل ما نقدر عليه".إنها إجابة مفتوحة إذن، لكنها لا تدل على غياب الرؤية لدى هذا الشاب والقطاع الذي يمثله، بقدر ما تدل على حالة تسود الوسط السياسي المصري راهناً يكذب فيها الجميع على الجميع، أو يقول شيئاً ويفعل آخر.لقد أثبتت الطريقة التي تعامل بها المجلس العسكري مع الثورة ومطالبها ونشطائها وشهدائها ومصابيها، على مدى الشهور العشرة الماضية، أنه لم يحب الثورة، ولم يحب من قاموا بها، وأنه حماها في البداية وتوافق معها توافقاً كبيراً جداً لكونها نجحت في خلع الرئيس وإجهاض مشروع التوريث، وهو الأمر الذي أراده لكنه لم يقدر على تحقيقه بمفرده أبداً.لم يحب المجلس العسكري في الثورة سوى أنها نجحت في خلع مبارك والقضاء على مشروع التوريث السيئ الذكر، لكنه لم يحب التظاهرات والاعتصامات والمطالب الفئوية المتصاعدة، ولم يقتنع بمطالب الشباب، ولم يتقبل الطريقة التي يتحدثون بها، ولم يثق بالثوار والنشطاء، ولم يفهم دور المجتمع المدني أو طريقة عمله، ولم يستسغ عمل الإعلام بلا سقف أو توجيه ورقابة وتعتيم.ضرب اللواء الفنجري عضو المجلس العسكري الأرض في فبراير الماضي أمام شاشة التلفزيون لتحية الشهداء بكل "إعزاز وإكبار"، لكن ذويهم اعتصموا في خيام التحرير بعد ذلك لشهور للحصول على تعويضات لم تأت في موعدها.لم ينفذ المجلس أي مطلب من مطالب ثورة يناير إلا تحت ضغط شديد غير محتمل، بما في ذلك إحالة مبارك ونجليه على المحاكمة، وهي بدورها تثير امتعاضاً كبيراً لدى الثائرين بسبب الطريقة التي يعامل بها الرئيس المخلوع وأسرته وأركان حكمه، وبسبب الإطالة غير المفهومة في إجراءاتها."السلفيون" كانوا يعارضون الخروج على الحاكم بشدة، وكان بعضهم يكفر الديمقراطية، ويحرم الانتخابات، لكنهم رغم ذلك دخلوا الانتخابات منافسين على معظم المقاعد، وحصدوا أكثر من ربعها."الإخوان المسلمون" أيضاً عارضوا الاشتراك في تظاهرات 25 يناير الماضي، لكنهم لحقوا بركب الثورة حين تأكد لهم قدرتها على الصمود والانتصار، وانخرطوا فيها بالكامل اعتباراً من يوم 28 يناير.وعلى مدى الشهور الماضية التي أعقبت إطاحة مبارك، ظلوا يقتربون من الشارع، ويفعّلون خيار التظاهر، كلما أخفقوا في الحصول على مكاسب سياسية عبر التفاوض والمساومة مع المجلس العسكري، ومن جهة أخرى يحرصون على الهدوء، ودعم المجلس العسكري وتأييده، كلما كانت أهدافهم السياسية تتحقق باطراد وسلاسة.الليبراليون والعلمانيون واليساريون ظلوا لعقود طويلة يتحدثون عن الديمقراطية، وحق الشعب في أن يحكم نفسه بنفسه عبر الانتخابات النزيهة، واحترام خيارات الناس عبر الصناديق أياً كانت تلك الخيارات، لكنهم لم يتخيلوا أبداً أن تسفر تلك الخيارات عن هزيمة ساحقة لهم، بحيث لم ينجحوا في حصد مقاعد تكافئ تلك التي حصدها حزب النور السلفي الذي لم يتعد عمره خمسة شهور.لذلك، فقد أُسقط في يدهم، وباتوا في موقف لا يحسدون عليه؛ حيث يرفضون تلك الانتخابات وما جلبته من نتائج، لكنهم غير قادرين في الوقت ذاته على معارضتها أو الانقلاب على نتائجها، ولهذا فهم يأملون في تطور سياسي غير انتخابي يعيد ترتيب الأوضاع بشكل يضمن لهم حظوظاً أفضل من تلك التي لن تأتي أبداً عبر الانتخابات التي يهيمن عليها الإسلاميون.يبقى أن شباباً في الثورة أيضاً يبطنون غير ما يظهرون، ويضمرون شيئاً لا يعلنونه بشكل واضح متحملين مسؤوليته كاملة.لقد انتاب هؤلاء الشباب شعور عميق بالمرارة والحسرة، فقد فجروا أنبل وأروع ثورة في التاريخ، وأذهلوا العالم وألهموه، تحت شعارات عظيمة تطالب بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، لكن ثورتهم سُرقت مرة من المجلس العسكري الذي حاصرها، وحاول حماية أقطاب النظام السابق بأقصى درجة ممكنة من الحماية، وسُرقت مرة أخرى من التيارات الإسلامية التي وصلت إليها متأخرة، وركبت موجتها بالكامل، وترجمتها إلى أغلبية برلمانية مريحة جداً، وبدأت بالتلويح بتغيير مطالبها الأساسية وشعاراتها الرئيسة، لتصبح رأسمالية يمينية محافظة مع نزعة ارتدادية متزمتة.ولذلك، فإن هؤلاء الشباب أيضاً باتوا تواقين لاستعادة زخم يوم 25 يناير الماضي، يوم أن كانوا في موقع القيادة والمبادرة، ويوم أن رأوا آلات القمع عاجزة، والرجال المهيبين يخسرون ويهربون، والإسلاميين في خلفية الصورة وليس في صدارتها.سيحتفل المجلس العسكري بالثورة اتقاء لغضبها لا حباً فيها، وسينزل الإسلاميون لحماية مقاعدهم في البرلمان ومستقبلهم في السلطة لا تكريماً لذكرى الشهداء، وسيراقب الليبراليون والعلمانيون ما سيحدث مضمرين الأماني في تطور مفاجئ يعيد الأوضاع إلى سيرتها الأولى قبل أن تهمشهم الانتخابات وتكشف وزنهم الحقيقي، وسيأتي الشباب إلى الميدان للتظاهر، لكنهم سيضمرون ثورة جديدة، وسيكشفون عنها فور أن تسنح لهم الظروف.تحتاج مصر في الفترة الراهنة وضوحاً وصراحة، وقدراً أكبر من الاتساق بين الأقوال والأفعال، لأن هذا القدر من التمويه والأكاذيب بين الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي سيعقد الأوضاع ويأخذها إلى ارتباك وانقسام وشطط، وقد يجعل الذكرى الأولى للثورة مناسبة جديدة حزينة.* كاتب مصري
مقالات - زوايا ورؤى
أكاذيب مصرية
15-01-2012