سبق لي أن تحدثت في هذا الموضوع من هذه الزاوية، لكنه من الموضوعات الحية التي تبقى نابضة دوما مهما تناولها الإنسان، كما أن الإنسان مجبول على النسيان خصوصاً في مثل هذا الموضوع.

Ad

 رمضان على الأبواب، وفي كل عام يأتي فيه، يباغتني ذات الشعور الغريب... أشعر وكأن شهر الصوم الذي مضى لم يكن إلا بالأمس، وأنه قد جاء هذه المرة أسرع من المفترض. أستعيد ذكريات رمضان الفائت فأكاد أجد مذاقاتها في فمي، و"التماعة" مشاهدها في أعماق عيني، وأصداء أصواتها في أذني، عذبة وضاءة جلية، وفي كل مرة يقودني هذا إلى التفكر في كيف تمر الأيام والأشهر والسنوات على الإنسان دون أن يشعر بها حق الشعور، فإذا استفاق وانتبه إذا به وقد انقضت رحلته في هذه الدنيا، وصار واقفاً على بوابة المغادرة.

هذه الحقيقة الصارخة، التي لا مجال للأخذ والرد فيها على الرغم من أنها ستظل ضبابية أمام النفس، تأتيني دائما ملحوقة بالتفكير في رسالة الإنسان في هذه الدنيا، وفي ما يقدمه فيها.

يقول أهل علم الاجتماع إن الإنسان في نهاية المطاف ما هو إلا علاقات، وهو كذلك بالفعل. شخصية الإنسان وقيمته في هذه الدنيا تشكلها علاقاته بالعالم من حوله، ومدى نجاحه فيها وتصنعها قبل كل شيء وبالطبع، طبيعة علاقته بربه، سواء أكان مسلما أم غير ذلك، وبعد ذلك علاقته بالناس من حوله على اختلاف درجاتهم، سواء بصورتهم الفردية أو الجماعية، بالأحجام والأشكال المختلفة، وبعد ذلك علاقته بالحياة بصورتها العامة.

علاقة الإنسان بربه، بخالقه، بمن يعزو إليه القوة الأعظم والقدرة الأكمل والأكبر، ومدى استقراره نفسيا واطمئنانه في هذا الجانب تنزل عليه سكينة يجد انعكاسها في كل خلجات نفسه، وفي كل حركات جوارحه. ومهما كبرت قوة الإنسان، ومهما تعاظمت قدرته، فإنه يظل يرى تلك النقطة التي لا تبلغها إمكاناته البشرية، وتنحسر عنها، ماثلة أمام عينه وهناك سيستشعر حتمية وجود الخالق الأعظم والقوة اللامتناهية التي يحتاج أن يكل إليها نفسه ليشعر بالأمان.

يتشكل الإنسان كذلك بعلاقته بالناس من حوله، بأسرته، بأهله، بمجتمعه، وذلك بمقدار عطائه نحوهم وبمقدار أخذه منهم، والعطاء والأخذ المقصودان في هذا السياق ليسا مقصورين على الماديات فحسب، إنما حتى ذلك العطاء بصورته الشعورية والعاطفية والمعنوية.

والعلاقة الثالثة هي علاقة الإنسان بالحياة من حوله، وقد لا يكون المراد من هذه واضحا للبعض، وللتوضيح سأضرب مثالا متطرفا بعض الشيء بأولئك البشر الذين قدموا للحياة إنجازات باهرة، كالمخترعين أو المكتشفين أو الأدباء الكبار وغيرهم ممن هم على شاكلتهم. هؤلاء قدموا إنجازات لم تتوقف عند حدود جغرافية أو فئة بشرية بعينها، إنما وصلت إلى كل نواحي الأرض، وبقيت خالدة يستفيد منها الناس على مر الأزمان والعصور. هؤلاء العظماء كانوا في النهاية بشرا مثلنا، يأكلون وينامون ويسيرون بين الناس، ومع ذلك ليس مطلوبا من كل إنسان أن يقدم للبشرية شيئا خارقا عظيما كهؤلاء، بقدر ما أن يكون قد قدم شيئا ذا قيمة ولو كان صغيرا.

مرور الأيام سريعة على الإنسان، وانقضاء عمره معها شيئا فشيئا، لابد أن تجعله يسأل نفسه عما قدم لهذه العلاقات في هذه الدنيا، وعن قيمته على الميزان يوم تحين ساعة رحيله، وقد قال القائل: إن لم تزد شيئا على الدنيا كنت زائدا عليها.

أسأل الله ألا نكون من الزائدين على الدنيا، وأن نكون ممن يزيدون فيها خيرا، وكل عامٍ وأنتم في سعادة وخير.