العلمانية الإسلامية حياد الدولة
لا مستقبل للدولة الدينية لأنها تجمد الحياة وتشل المجتمع وتقتل الإبداع وتميت الفرحة والبهجة وتورث الكآبة والبؤس، الدولة الدينية نمط من الحاكم الشمولي الذي يحمل بذور فنائه في نفسه تماماً مثل النظام الشيوعي والنازي والفاشي، وهي ضد روح العصر وثقافته، ولذلك على السلطات السياسية في أوطاننا أن تنأى عن تبني خيارات مذهبية أو طائفية أو قبلية.في ظل صعود الإسلاميين ووصولهم إلى السلطة وحصلوهم على أغلبية برلمانية، يتجدد الجدل حول علاقة الإسلام بالدولة وبالشأن المجتمعي العام السياسي والاجتماعي والاقتصادي خصوصاً «العلمانية»، وإلى أي مدى يمكن للإسلاميين وهم في السلطة أن يتسامحوا مع جوانب أو مفاهيم في العلمانية؟ لقد تجاوز إسلاميون كثر عقبة «الديمقراطية» بعد أن وصلوا وأصبحوا متقبلين لها نظرياً على الأقل حتى الآن لكن الموقف من العلمانية لا يزال متشدداً.
بالأمس القريب أصدر الأزهر الشريف وهو أعلى مرجعية دينية «وثيقة» بشرعية الدولة المدنية، واعتبرت «المواطنة» أساس المسؤولية المجتمعية، وأكدت مبدأ التعددية السياسية والدينية، واعتمدت ثقافة الحوار وقبول الآخر، ورفضت التوظيف النفعي للدين، وقد وجدت الوثيقة ترحيباً عاماً من أطياف المجتمع المصري ومنها منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان وجماعات ليبرالية وعلمانية، ونحن نعلم أن الدولة والحكم والدولة «منتج إنساني»، وأن أفهامنا للنصوص الدينية هي في النهاية «أفهام بشرية» تتناسب والمستوى الحضاري للمجتمع تقدماً أو تخلفاً، كما نفهم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم «أنتم أعلم بأمور دنياكم».إلا أن «العلمانية» ظلت في السياق الإسلامي، مرادفة للفسوق واللادينية، ولم يشفع للعلمانيين تأكيدهم المستمر أن العلمانية لا تعادي أو ترفض الدين، إنما تسييس الدين وتوظيفه في سوق السياسة الاقتصادية، وهو ما أكدته وثيقة الأزهر.يقول حيدر إبراهيم: «العلمانية ليست إيديولوجية أو فلسفة تعادي الدين، لكنها «آلية» أو «وسيلة» تضمن لكل أفراد المجتمع أن يكونوا أحراراً في ممارسة دينهم، وفي اختياراتهم السياسية ولا تسعى إلى إبعاد الناس عن التدين ولا تسعى أصلاً إلى فرض أي أفكار على الناس والدولة العلمانية، دولة محايدة بين الديانات وليست دولة إيديولوجية مثل الدول الشيوعية والقومية والدينية».لماذا شوهت العلمانية؟ ولماذا اتهم العلمانيون بأنهم عملاء الغرب؟! يجيب د. عمار علي حسن بأن هذه التصورات «تنطلق من فهم خاطئ للقيم العامة في الإسلام، كما تنبني على إدراك مزيف للعلمانية إضافة أن هناك تراثاً عريضاً ممتداً لأكثر من نصف قرن في ذم وهجاء العلمانية والترويج المشوه لها عبر مؤلفات ومناهج ومنابر وفتاوى غذيت بها الناشئة، ونفرت جمهرة المسلمين عنها بل مؤسسات ممولة جعلت من محاربة العلمانية والعلمانيين رسالتها السامية، كما ساهم علمانيون متطرفون بمواقفهم المستفزة من المظاهر الدينية- أيضاً- في هذا التشويه والنفور».واليوم نجد عبر الساحة محاولات فكرية جادة من قبل إسلاميين بعضم في السلطة لإيجاد أوجه توافق بين الإسلام والعلمانية يسميها خالد القشطيني «العلمانية الإسلامية» مشيراً إلى رئيس وزراء تونس حمادي الجبالي الذي تحدث عن القيم الإسلامية وحصرها في الشفافية والديمقراطية دون أي ذكر للزي الإسلامي أو الحجاب أو أي قيود على تقاليد الحياة الأوروبية في تونس، كما ذكر حالة تونس للقروض، وهو ما سيفي دفع فوائد «ربا». ويسميها المفكر الإسلامي الذي أصبح وزيراً لخارجية تونس رفيق عبدالسلام «حياد الدولة»، فيعلل عبدالسلام نفور الناس من العلمانية إلى أسلوب أتاتورك في فرض العلمانية الشمولية، وإكراه الناس عليها بالقوى كما يفسر خروج الناس على المألوف الديني في الدول التي طبقت الأسلمة مثل إيران برفضهم الإذعان لقوة الإكراه والخطر فيما يسمى قناعاتهم الفردية، ويستخلص من التجربتين التركية والإيرانية درساً للإسلاميين والعلمانيين معاً، هو «إن تدخل الدولة في خيارات الناس وأنماط حياتهم وأذواقهم باسم العلمانية أو الدين لن يجلب إلا مزيداً من الأتعاب على المجتمع والدولة»، لكن ما الحل؟ وما المخرج؟«الدولة المحايدة» هي الحل والمخرج وأقل الخيارات سوءاً والمقصود بها «تلك الدولة التي تكتفي برعاية الشأن العام وخدمة مصالح مواطنيها بدل التدخل لفرض أنماط معينة في الملبس والهيئة والسلوك والذوق»، يرى عبدالسلام أن مطلب «حياد الدولة» اليوم أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى لأن الدولة الحديثة أصبحت تمتلك قدرات رقابية، وتدخلية هائلة إلى الحد الذي كادت تغيب فيه الحدود الفاصلة بين ما هو عام وما هو خاص.وإذا انتقلنا إلى الدكتور عمار علي حسن نجده يؤكد أن الإسلام يستوعب ما يسميه «العلمانية الجزئية» لا «العلمانية الكلية» التي تحاول إقصاء الدين عن الحياة العامة تماماً، ويتوصل إلى معادلة مفادها أن «فصل الدين عن السلطة ضرورة، لكن فصله عن المجتمع جريمة»، ويرى تقابل الإسلام والعلمانية في 5 أسس: أولها أن الإسلام ليس ديناً روحانياً خالصاً، بل يزاوج بين المادة والروح في توازن، والمادة مناط العلمانية، وثانيها أن الإسلام لا يعارض دنيوية العلمانية لأنه لا يلغي الدنيا لحساب الآخرة، وثالثها، أن الإسلام لا يعرف الكهنوت ولا يضفي قداسة على بشر مهما علت مكانته، ورابعها، أن الإسلام جعل من التفكير فريضة، وخامسها أن الحكمة القائمة على العقل والعلم والفهم جزء أصيل من روح الإسلام ومقاصده وقيمه.يتساءل حيدر إبراهيم: إذا كانت العلمانية لا تعارض الدين فلماذا يحاربها دعاة الدولة الدينية؟! ويجيب «لأنها تنهي سطوة رجال الدين على الدولة، وتمنع خطف الدولة على يد مجموعة تحت ستار الدين يختبئون وراءه ليفعلوا بها ما يشاؤون «لقد ثبت عبر التجارب التي وصل فيها الإسلاميون إلى السلطة وحاولوا فرض الأسلمة على المجتمع والدولة أن كافة تلك التجارب كانت فاشلة وزادت الناس نفوراً وتمرداً وخروجاً عن المألوف الديني».كما يقول رفيق عبدالسلام «كلما ارتبطت الأفكار بأدوات الدولة تحولت إلى مدونة إكراهية من الموانع والزواجر التي يضيق بها الناس ذرعاً، وتثير فيهم بواعث التحلل منها والتحايل عليها ومن ثم تصبح الدولة: الآلة المنتج الأكبر للنفاق».نعم لا مستقبل للدولة الدينية لأنها تجمد الحياة وتشل المجتمع وتقتل الإبداع وتميت الفرحة والبهجة وتورث الكآبة والبؤس، الدولة الدينية نمط من الحاكم الشمولي الذي يحمل بذور فنائه في نفسه تماماً مثل النظام الشيوعي والنازي والفاشي، وهي ضد روح العصر وثقافته، ولذلك على السلطات السياسية في أوطاننا أن تنأى عن تبني خيارات مذهبية أو طائفية أو قبلية، وعليها احترام وكفالة حقوق الأقليات عبر تشريعات وسياسات عملية وفرص متكافئة في التعليم والإعلام والوظائف العامة وتوزيع الثروات العامة.* كاتب قطري