كان الكتاب أول مصادر الاستمتاع والمعرفة في حياتي، ثم جاءت اللوحة والمنحوتة، ثم العمل الموسيقي. وكما كنت أتعامل مع الكتاب في حالة انصراف كلي للقراءة، كذلك صرت أنصرف بالجدية ذاتها إلى تأمل اللوحة ومتابعة العمل الموسيقي. ما من فرق مطلقاً في الحاجة إلى التهيؤ الجدي لعملية الاستيعاب، إلا أن اللوحة والعمل الموسيقي يحتاجان مني إلى تهيؤ إضافي لتأمل الشكل وإدراك البنية. لأن كلا العملين يعتمدان في قواهما الجمالية والدلالية على طبيعة العمارة والبناء فيهما. ولذا فإن دراسة العناصر التي تُبنى فيها اللوحة التشكيلية، والعمل الموسيقي، حتى لو كانت دراسة أولية، تمنح للمتأمل قدرات رائعة للاستمتاع بالعمل والانتفاع منه.

Ad

إن عناصر اللحن Melody، والإيقاع Rhythm، والإنسجام Harmony، والنسيج Texture، والشكل Form، التي نعرفها في البنية الموسيقية إنما نقع عليها، بقليل من التبصر، في بنية اللوحة التشكيلية.

ولنأخذ أولاً «الإيقاع» الموسيقي، الذي يشير إلى الحركة الموسيقية المنتظمة في الزمان، لأنه الأقرب إلى الفاعلية الفيزيائية وحركة الجسد. إنه من حيث قياسه الرياضي يقارب الإيقاع الذي تتطلبه العمارة بصورة واضحة، وكذلك الإيقاع الذي نكتشفه في اللوحة. في أي مبنى كلاسيكي لا تغفل العين متابعة ضوابط التناسق وعناصر التكرار في العمارة. وكذلك توزيع الخطوط والكتل والفضاءات في اللوحة. بالقدر ذاته الذي تأسرنا فيه ضوابط التناسق، وعناصر التكرار في الإيقاع والأوزان الموسيقية.

في حركة «اللحن» عادة ما يضيف عنصر «الهارموني» بعداً موسيقياً جديداً، هو بُعد العمق، لأن الهارموني يعني تواصل لحنين مختلفين، أو أكثر، في وقت واحد، ولذا يعطي إحساساً بالمساحة والفضاء. هذا البعد تكاد تخلو منه الموسيقى العربية والشرقية بصورة عامة. والهارموني في الموسيقى بهذا المعنى يقابل «المنظور» في فن الرسم. وكما اكتشف الغربيون فكرة الهارموني في الموسيقى، في وقت مبكر يعود إلى القرن العاشر، كذلك اكتشفوا فكرة «المنظور» التشكيلي في القرن الخامس عشر. ففي اللوحة قد يُعنى الرسام بتجنب التسطيح، لصالح المشاركة الفعالة بين الخط القريب والآخر البعيد في العمق. تماماً كما يتلاشى الخيط اللحني على ظاهر العمل الموسيقي أو الأغنية، لصالح الخيوط اللحنية المتعارضة والمختلفة و المتزامنة في آن.

وإذا ما ألفنا النسيج الموسيقي texture بفعل ألفتنا لأنواع التأليف الثلاثة: في اللحن المنفرد، وفي تعدد الألحان التي تعتمد التطابق (نغمة مقابل نغمة)، وفي المصاحبة الهارمونية مع المسار اللحني الواحد... فإن ألفتنا للنسيج التشكيلي أيسر. فالقطعة الموسيقية التي تخلو من أي نسيج هارموني، بسبب اعتمادها على اللحن الخيطي الواحد في الآلة أو الصوت البشري مثلاً، لا تستدعي منا جهداً حقيقياً في الاستيعاب، وبالتالي لا تمنحنا غنى حقيقياً في الاستمتاع. كذلك اللوحة التي نراها في بوسترات الدعاية والإعلان.

أما «الشكل» الموسيقي Form فنحتاج إلى شاهد لمقاربته مع «الشكل» التشكيلي. فهناك في الموسيقى الكلاسيكية نظامان للشكل الأولي في بناء العمل، أولهما الذي يعتمد التكوين الثنائي binary: اللحن الأصلي، ثم اللحن الثاني. إذ ما من جملة موسيقية تبدأ تطلعها كما يتطلع السؤال، إلا وتحتاج إلى جواب تستريح إليه. وهناك التكوين الثلاثي، ويأخذ بنية A-B-A، وهو يشبه التكوين الثنائي، مع إضافة إعادة ثانية للحن الأول. المشهد المعماري للجامع الإسلامي، بقبته المدورة، إلى جانب منارته المستقيمة العمودية، يقارب بصرياً العلاقة ذاتها التي بين اللحنين في البناء الموسيقي A-B. والمشهد المعماري لمبنى «تاج محل، الهندي الشهير، يقارب العلاقة ذاتها بين لألحان في التكوين الثلاثي الموسيقي. المشهد لا شك يريح العين بهذا التكوين الثلاثي، حيث صُفة الأشجار تنقطع بمعمار المبنى، وسرعان ما تعاود امتدادها ثانية، لتوافر الانسجام المطلوب. المشهد يبعث موسيقى تضاهي في انسجامها انسجام التشكيل المرئي.

 والآن هل نختتم هذه العناصر الفنية بعنصر «الديناميكية»، الذي تتطلبه الموسيقى كما يتطلبه التشكيل البصري للوحة؟ الديناميكية تتولد من مقدار سرعة اللحن ومقدار ارتفاعه وانخفاضه ورقته. موازين ذلك غاية في الدقة والأهمية في التأليف الموسيقي. التعارض بين هذه العناصر يمنح العمل تدفقاً وحيوية، كالحيوية التي يمنحها تعارض الظل والضوء في اللوحة الزيتية أو الفوتوغراف.