دروس على الرصيف
هناك جانب إبداعي في الحراك الشبابي ماثل أمام أعيننا، هذا الحراك يزيدني يقيناً بأننا مقبلون على تغير نوعي في القادم من الأيام قد يتجاوز حالة العبث السياسي المكررة في تعاطينا السياسي الذي تمارسه الحكومة والنواب والنخب السياسية.الندوات التي تمت في ساحة العدالة كانت من ذلك النوع. وكان الإقبال عليها كبيراً، والحضور بشتى توجهاته، من الجنسين، ومن مختلف الشرائح، الساحة بدون قيادة أحد، سقفها سماء عالية، وأرضيتها أسفلت وأرصفة متناثرة هنا أو هناك. يمارسون حالة من التأمل العميق. بالنسبة إلي وقد شرفني الشباب بإلقاء المحاضرة الأولى، فإنني قد لاحظت درجة الانضباط والإنصات العميقين من الحضور، مع بقاء عدد كبير منهم واقفاً على مدى ما يزيد على ساعتين.
كان حديثنا عن كيف وصلنا إلى هذه الحالة المحبطة، وكيف فشل سياسيونا في قيادة البلاد إلى بر الأمان.وعلى الرغم من أن مكان التجمع كان الهدف منه التصدي للتعسف في استخدام القانون، وبالذات في ما يعرف بصلاحيات الحبس الاحتياطي، الذي استمرأته النيابة خلال السنة الماضية وبالذات في قضايا الرأي، فإنه بات من الضروري التذكير بأن من يقف مع المبدأ كان عليه أن يقف مع ناصر أبل، الذي مورست ضده تجاوزات مكررة على حقوق المتهم، كان منها التعسف في الحبس الاحتياطي، وتكرار عدم إحضاره من حبسه للمحكمة، كذلك وجب التذكير أيضاً باعتقال علي الشطي وحجزه في أمن الدولة منذ أيام. إن لم نخرج من هذا الحراك، وهو ما يعنيني بالدرجة الأولى، بتعديل القانون والحد من الصلاحيات المطلقة في الحبس الاحتياطي، وهذا بالضبط ما حدث مع المحتجزين الذين تم تمديد حبسهم احتياطياً، فإن الدروس ضائعة، كما يجب علينا ألا ننسى أبداً أن هناك جرحاً مفتوحاً غائراً اسمه البدون. نقاشنا تجاوز الأشخاص الماثلين أمامنا على المسرح السياسي، بل إننا حتى تجاوزنا رئيس الوزراء، فمشكلة وطننا المتعب أبعد وأكبر من الأشخاص، بل هي أقدم وأكثر عمقاً من مجرد تصرف شائن هنا أو هناك. مشكلتنا في ديمقراطية يقال إنها هنا بينما هي هناك، بعيدة المنال، عصية علينا، ديمقراطية ناقصة، مثلومة، ديمقراطية تعبث بها الحكومة وتجرها على الشوك، ديمقراطية وحريات لا يحترمها نوابها ويطالبون بالتشدد في الحريات، ديمقراطية يصبح الفساد فيها من المسلمات، همنا كان باتساع سماء هذا الوطن الجريح، وبأفق بحره الممتد امتداداً لا حد له. كنا نجلس هناك، والقلق على الوطن يتأجج في الماضي، وفي القلب غصة خوفاً على انهياره وانحداره.كان الهم مشتركاً حتى النخاع، وكانت الرؤى عالية، فقد كنا نتحاور على الرصيف، والرصيف كما هو معروف بلا أسقف، وبلا أبواب، فالحديث كان ينفذ من القلب إلى القلب، فالأبواب كانت قلوباً مفتوحة، وحب الوطن كان هو العنوان. ربما كنا، بل كنا حقاً في محراب الوطن، كانت محطة مجانية لاكتشاف الذات.الأجواء السائدة توحي باختلافها عما مضى، كما أنها توحي بوعي أخذ في التشكل، ولعل هذا الوعي الجامح، الخارج من القوالب الأسمنتية، إلى رحابة الأرصفة والسماء المفتوحة، هو الذي قد ينقلنا، وأقول قد ينقلنا، إلى مجتمع أكثر تسامحاً، يرى التعددية واحترام الآخر شرطاً لبقائه، ويرى العدالة أساساً للاستقرار، ويرى المواطنة أولوية دون انتقاص، ويرى كرامة الإنسان محور الارتكاز دون تمييز.هل تحقيق ذلك أمر واقعي؟ ولم لا؟ فنحن لم يعد أمامنا خيار، فإما ذلك وإلا فالتمزق والخراب وهدر الإمكانية، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وليحفظ الله الكويت وأهلها وكرامتهم من الانتقاص، وحرياتهم من الانتهاك.