الكتابة عن شاعر صديق وقريب من الروح تصيبني بالخوف، أخشى أن تطغى المحبة على الانطباع النقدي، وأن أضعه هو بين عيني قبل نصه. وهذا الصديق الهادئ يربكني أكثر من سواه. أعرفه من أول البدايات وشكل مع زملاء له جيلاً مهماً وثرياً من شعراء الكويت الذين خرجوا من الدائرة المحلية بثقة زائدة ومقدرة أخاذة، فهل بإمكاني الكتابة عنه بعيداً عنه؟ سأحاول.

Ad

دخيل الخليفة لم يسعده الشعر ولم يبن له سوى الكثير من الحزن والقليل من البهجة. لا يختلف في ذلك عن أقرانه من شعراء الكويت البدون، ولكنه ينوء بحمل همه اليومي أكثر من سواه. وهو يعي أن الشعر ليس بياناً رسمياً جامد العبارات ولا شكلاً من أشكال الوصف المباشر للمعاناة، وجاءت مهمته الكتابية بين شفا الانزلاق نحو المباشرة والارتقاء نحو الإنساني، واستطاع اجتياز الاختبار بمعرفة وخبرة كافيتين لإخراج نصه إلى الهم الإنساني، تاركاً ملامح معاناته مادة لشعره ولكنها ليست شعره.

"أن تنام على الشارع

أو ينام الشارع على جسدك المتخشب

ما الفرق؟

كلاكما بردان

وعار إلا من الوحشة!"

في ديوانه الأخير "يد مقطوعة تطرق الباب" يكتب دخيل الخليفة وهو يقف خارج إطار اللوحة المزدحمة بالناس وضجيجهم. يرسم تفاصيل أيامه بعيداً وحيداً كطفل يتيم يراقب عن بعد الأطفال وهم يمارسون حياتهم ويتقاذفون بالألعاب والكلمات. يكتب الشارع لوحده ويرسم حزنه لوحده ويخطط لحلم ليلته لوحده ويحفر قبره الأخير قبل أن يموت لوحده.

أي قراءة للديوان ليس بإمكانها أن تتجاهل هذا القاموس الكبير من عبارات الحزن والموت والقبور والجثث والأقدام الحافية والأطراف المبتورة والأجساد الفارغة، وهو قاموس ربما لم يقصده الشاعر أو يبنيه متعمداً لكنه انعكاس حقيقي لما يمارسه خارج إطار الحياة الطبيعية التي يمارسها الناس عامة. ولو حاولنا رسم صورة لشخصية الراوي في النص وليس الشاعر، لكانت إحدى شخصيات الجروتسك Grotesque. اليد المقطوعة التي تطرق الباب / في الليل تلبسنا الهياكل العظمية / المكان يمشي وأنا بلا أقدام / هذا الصباح صحوت بلا فم / دون أن يشعر برؤوسنا تتدحرج / لتمشي وحيدا مثل جسد فارغ / ظل بلا أقدام... هذا القاموس منثور في ثنايا الديوان دون تخطيط مسبق، لكنه تصوير دقيق للحالة النفسية التي يعانيها الراوي المهشم من الداخل والمهمش من الخارج.

دخيل الخليفة يبتعد عن المباشرة القاتلة للشعر لمنح الشعر حياته التي يستحقها، ليس هناك ما هو مكتمل في القصيدة، فلا علاقة العاشقين تكتمل ولا علاقة الوطن تتأطر، لم تغلق الأبواب على أهلها دون خوف من الرياح، ولم تأمن الأمهات على مستقبل الأبناء وحتى الموت بخيل يكاد يأتي ولا يأتي.

هناك شعراء نسجل لهم القدرة على الاستمرار وسط هذا اليأس الكبير في ظل غياب الفعل، ووسط هذا الإحباط المزدوج الذي يمارسه المثقف الزميل والمؤسسة الرسمية التي تقبل الشاعر يوماً وترفضه عاماً. ونسجل لدخيل الخليفة إصراره الأجمل على ممارسة الحياة شعراً رغم كل المعوقات التي تعترض طريقه. وإذا أنصف النقاد دخيل فعليهم أن ينصفوه شاعراً بعيداً عن وضعه الفئوي في المجتمع.