ابق جائعاً... ابق مغفلاً

نشر في 13-10-2011
آخر تحديث 13-10-2011 | 01:01
No Image Caption
 حسن مصطفى الموسوي عاش حياة ملفتة بكل المقاييس، تصلح أن تكون من قصص ألف ليلة وليلة بعد أن ولد لأب سوري وأم أميركية من أصل ألماني سويسري، لتتبناه أسرة أميركية من أصل أرمني، وينسحب من الجامعة ليؤسس مع زميله ستيف وازنياك أكبر شركة تكنولوجية في العالم حالياً... إنه ستيف جوبز الذي غيّر وجه التكنولوجيا في العالم خلال العقد الماضي.

أثناء دراستي للماجستير قبل أربع سنوات بعث لي زميلي مقطعا لكلمته الشهيرة في حفل تخرج لجامعة ستانفورد، فلم أشعر بأهميته آنذاك، فتركته لكن بعد وفاته دفعني فضولي لمشاهدته قبل أيام عدة، فوجدتها كلمة تنم عن تفكر عميق لرجل أدرك ذاته منذ البداية، وفيها من الخواطر ما يجعلها تكون واجبة السمع على كل طلبة العالم.

يتحدث جوبز في خطابه عن السنة ونصف السنة التي أمضاها في حضور الدروس التي يحبها بالكلية بعد أن انسحب رسميا من الدراسة، وكيف كان ينام على الأرض في مسكن أصدقائه ويجمع زجاجات الكوكاكولا الفارغة مقابل 5 سنتات للزجاجة من أجل شراء طعامه، وكيف كان يمشي ليلة الأحد من كل أسبوع مسافة سبعة كيلومترات ليحصل على وجبة مجانية من معبد هندوسي. ومع أن الحياة كانت صعبة لكنه أحبها وشعر بلذتها، واكتشف لاحقا أن هذه الفترة ساعدته في الإبداع لاحقا عند تصميم برامج جهاز "ماكنتوش"، ومثال على ذلك حضوره لدروس الخط التي استفاد منها لتصميم خطوط الجهاز الجميلة.

إنها دروس لنتعلم منها قيمة العمل والكدح، لكننا للأسف عملنا بالعكس، فقد كنا شعبا كادحا ومنتجا ومبدعا يوما ما، لكن ما إن ظهر النفط حتى بدأنا تدريجيا بالتحول إلى شعب خامل كسول بعد أن انشغل كبار القوم بتوزيع الكعكة بدلا من بناء الدولة، ووضعنا هذا ليس استثنائياً فجميع الدول المنتجة للنفط لم تستثمر هذه الثروة من أجل التنمية الحقيقية باستثناء دولة واحدة فقط هي النرويج، حيث تذهب الإيرادات النفطية مباشرة إلى صندوق استثمارها السيادي.

ولذلك بدأنا نخلق البيروقراطيات من أجل توظيف المواطنين ليصبحوا بطالة مقنعة، وبتنا نوزع الكوادر يمنة ويسرة بشكل فوضوي وكارثي، فبات الجميع يريد أن يكمل دراسته حتى في جامعات "الميكي ماوس" في الفلبين لا من أجل طلب العلم والاستفادة منه للإبداع والابتكار بل من أجل تحسين الوضع المادي فقط والجلوس على المكاتب، وحتى الفنيون الذين تخرجوا في معاهد فنية لمزاولة العمل الحرفي نجدهم يعملون في الحكومة كمشرفين فقط على عمل مقاولين وشركات جل عمالتها من الأجانب، وحدث كل هذا بسبب ضعف الحكومة واستعمالها للمال العام من أجل تخدير الشعب وبمباركة، بل بتحريض، من شهاب الدين مجلس الأمة.

ويقول جوبز في فقرة أخرى من خطابه: "السبيل الوحيد لتؤدي عملا عظيما هو أن تحب ما تعمله... وقتك محدود في هذه الدنيا فلا تضيعه في عيش حياة شخص آخر ولا تدع الضوضاء الصادرة عن آراء الآخرين تعلو فوق صوتك الداخلي... وتملك الشجاعة لاتباع ما يمليه عليك قلبك وحدسك... فكل شيء آخر هو ثانوي". ما إن سمعت هذه الكلمات حتى تساءلت: كم من شخص عمل طبيبا ومهندسا من أجل تمنيات الأهل أو النظرة الاجتماعية بينما سعادته الحقيقية في عمل آخر وإن براتب أقل؟ وكم من عبقري في الكمبيوتر وماهر في ميكانيكا السيارات أو كرة القدم لم يعمل بما يحب ودرس علوما تقليدية، وانزوى في ردهات وزارة ما دون عمل يشبع طموحه الذاتي؛ مع أنه كان بالإمكان تحقيق الكثير لو اتبع ما يمليه عليه قلبه؟

وكم من طاقات مدفونة في القطاع العام كان يمكن لها أن ترفع اسم بلدها، وتحقق النجاح والسعادة بل الثروة أيضا؟ ولذلك نرى أن الزيادات والكوادر الأخيرة لم تجلب السعادة لأحد بل زادت من مشاعر الحسد والمنافسة، وبهذا الصدد يقول البروفيسور جيفري ساكس في مقاله (اقتصاد السعادة): "إن السعي الدؤوب للحصول على دخل أعلى يؤدي وبشكل غير مسبوق إلى انعدام المساواة ومشاعر القلق بدلا من أن يؤدي إلى المزيد من السعادة والرضا عن مستوى المعيشة"، في إشارته إلى تجربة مملكة بوتان التي قرر ملكها الشاب قبل 40 عاما أنه "يجب على بوتان أن تسعى (للسعادة المحلية الإجمالية) بدلا من الناتج المحلي الإجمالي".

وفي آخر فقرة من خطابه يتذكر جوبز عبارة كتبت في آخر إصدار من مجلة كانت مفضلة لدى جيله، وهي "ابق جائعا... ابق مغفلا"، وهي عبارة غنية بالمعاني العميقة لأن الجائع دائما يبحث عن وجبته القادمة، وعن مغامرة قادمة وتجربة جديدة لتأمين لقمة العيش، والمغفل هو الذي يسلك طرقا قد تبدو لا عقلانية لدى الآخرين لكنها تحقق له النجاح، أو الذي لا يعتبر نفسه عالما بكل شيء وبذلك لا يمنع نفسه من تعلم المزيد واستمرار الابتكار.

وللأسف فإننا نطبق العكس تماما أيضا، فطلبة الجامعة يقودون أحدث السيارات وأغلاها وإن كانت بقروض يدفعها الأهل، ويريدون معاشا شهريا من الحكومة من أجل الدراسة، وطبعا بتشجيع من جهابذة مجلس الأمة، وبذلك لا يشعرون بقيمة دراستهم وأهميتها لأن الحكومة تضمن لهم كل شيء من المهد إلى اللحد من دون إنتاج مقابل، وطلبة الثانوية يتظاهرون للإبقاء على نظام درجات أخرق أنتج نسبا مرتفعة غير حقيقية حتى يستطيع الجميع الالتحاق بالجامعة، وبعد ذلك الحصول على راتب مرتفع مقابل الجلوس على الكرسي!

إن مجتمعا كالذي نعيش فيه لا يمكن أن يستمر إلى الأبد على هذا النحو، وينجو في عالم مليء بالمنافسة في ابتكار المنتجات وخفض الأسعار، وما دامت الحكومة وشهاب الدين مجلس الأمة مستمرين في تخدير الناس عبر "إبر النفط"، ويرفض أي منهما تعليق الجرس، فإني أتمنى صادقا أن ينزل سعر البرميل إلى أقل من 30 دولارا- ولو بصورة مؤقتة- حتى نضطر إلى تغيير المعادلة الفاسدة التي بنيت عليها الدولة، عل وعسى أن ننقذ الأجيال القادمة وندخر لها شيئا.

كنت أتمنى تناول الخطاب بإسهاب أكثر لكن المساحة لا تسمح، ومن يرد الاستماع مع الترجمة فليبحث في اليوتيوب عن: (Stev Jobs in Stanford University arabic).

back to top