يبدو أن الغرض من إنشاء عملة موحدة أصبح إلى حد كبير، وعلى نحو يثير الدهشة، نسياً منسياً في أوروبا التي مزقتها الأزمة. فهناك بدلاً من ذلك مخاوف أخرى أكثر إلحاحا: التكهنات المتشائمة الكئيبة حول الانهيار الوشيك لمنطقة اليورو والمحاولات اليائسة للعثور على حلول مؤسسية للمشاكل العميقة التي تعانيها المنطقة فيما يتصل بالحكم. ولكن اليورو لم يكن مجرد نتاج لسعي ضال للحد من إنهاك الجيوب المحشوة بالعملات الوطنية القديمة غير المتجانسة، أو لتيسير التجارة بين بلدان أوروبا، والواقع أن هذه التجربة الأوروبية الجريئة عكست موقفاً جديداً إزاء الوظيفة التي ينبغي للمال أن يقوم بها، فضلاً عن الكيفية التي ينبغي أن يدار بها، وباختيار شكل "نقي" من أشكال المال، تأسس على استقلال البنك المركزي عن السلطة الوطنية، فإن الأوروبيين تحدوا بذلك وعن وعي كامل ما أصبح التقليد النقدي السائد. في القرن العشرين، كان من المتصور عادة أن إنتاج النقود- النقود الورقية- نطاق تنفرد به الدولة، فكان من الممكن إصدار النقود لأن الحكومات كانت تتمتع بالسلطة الكافية لتحديد الوحدة الحسابية التي يتم سداد الضرائب بها، ويرجع هذا التقليد إلى ما قبل اختراع العملات الورقية. فلقرون عديدة، حتى أثناء تداول العملات المعدنية، كانت مهمة تحديد الوحدات الحسابية موكلة للدولة (أو أصحاب السلطة السياسية).
وكان انتهاك هذا الدور، عندما ذهبت الحكومات إلى معالجة الديون المفرطة بالتخلص منها بزيادة معدلات التضخم، مدمراً إلى حد بعيد للنظام السياسي في النصف الأول من القرن العشرين. وبعد الحرب العالمية الثانية، أدرك الساسة الليبراليون الملتزمون بالفيدرالية الأوروبية هذه الحقيقة بوضوح. ولقد دافع رجل الاقتصاد ومحافظ البنك المركزي ووزير المالية ورئيس الجمهورية الإيطالية لويغي إينودي عن هذه الحجة في أعقاب الحرب مباشرة قائلا: "إذا سلبت الفيدرالية الأوروبية من الدول الفردية سلطة إدارة الأشغال العامة من خلال مطبعة النقود، وتحجيم سلطاتها في الإنفاق بحيث تقتصر على النفقات التي يتم تمويلها بالاستعانة بالعائدات الضريبية والقروض الطوعية فقط، فإنها بهذا التصرف وحده تكون قد أنجزت عملاً عظيما". ولكن انتهاك القواعد النقدية لا يقل خطورة في الأنظمة السياسية التي تتمتع بسلطة متعددة الطبقات، فقد أدت في الماضي غالباً إلى تفكك الدول الفيدرالية. ويرجع هذا إلى حقيقة مفادها أن التضخم لا يُعَد علاجاً حميداً للعلل الاقتصادية، حيث يتم نشر التأثيرات الطيبة والتحفيزية بالتساوي على المنطقة بالكامل تحت إشراف السلطة النقدية التضخمية. ويعتمد إحداث التضخم على قرار البنك المركزي بتحويل أدوات دين بعينها إلى نقود. وفي كل الأحوال فإن السلطة النقدية لا تقرر ببساطة أبداً تحويل كل الالتزامات إلى نقود، بل إنها تقرر بدلاً من ذلك أن بعض الصناعات، أو البنوك، أو السلطات السياسية، تحتاج إلى الدعم بهدف تحقيق المصلحة العام، ولا شك أن تلك الصناعات والبنوك والسلطات السياسية التي لا تتمتع بكل هذا القدر من التميز تشعر بالسخط والاستياء، وتنظر إلى تصرفات البنك المركزي باعتبارها إساءة استخدام للسلطة. وفي الأنظمة الفدرالية بشكل خاص، فإن هذه المؤسسات والسلطات السياسية المبعدة عن المركز من المرجح أن تستبعد من الحوافز النقدية وبالتالي فهي تميل إلى الشعور بالسخط والاستياء. كان فرط التضخم في ألمانيا في عشرينيات القرن العشرين سبباً في تشجيع انفصال بافاريا، وراينلاند، وساكسونيا، لأن هذه المناطق النائية تصورت أن البنك المركزي الألماني والحكومة المركزية في برلين كانا يميزان ضدها. وكان الانفصاليون متطرفين سياسيا؛ إلى أقصى اليسار في ساكسونيا، وإلى أقصى اليمين في بافاريا وراينلاند.وهناك أيضاً حالات أكثر حداثة لنفس التأثير، ففي أواخر الثمانينيات في يوغوسلافيا، ومع تفكك النظام الاشتراكي، كانت السلطات النقدية في بلغراد أقرب لساسة صربيين من أمثال سلوبودان ميلوسيفيتش وأصحاب المصالح التجارية الصربيين. ونتيجة لذلك، كان الكروات والسلوفينوين راغبين في الخروج من الاتحاد الفيدرالي، وفي الاتحاد السوفياتي، ظهر التضخم باعتباره أداة للبيروقراطيين في موسكو، وهناك أيضاً سعت المناطق النائية إلى الانفصال.ولقد أدرك صناع أوروبا الحديثة أن المال غير المستقر الخاضع لإساءة الاستغلال سياسياً من شأنه أن يشكل كابوساً أوروبيا، وأن يؤدي إلى عداوات وخصومات وطنية مدمرة، وكان هؤلاء مدعومين من قِبَل اثنين من أعظم خبراء الاقتصاد نفوذاً في القرن العشرين، فريدريك فون هايك وجون ماينارد كينز. كان هايك الأكثر انتقاداً لإصدار النقود من قِبَل الدولة، وكان الاقتراح الذي طرحه- إصدار عملات تنافسية من خلال "العمل المصرفي الحر" حيث تعمل سلطات خاصة عديدة على إصدار نقود خاصة بها- كان أكثر تطرفاً من الحل الذي تبناه الأوروبيون في التسعينيات. ولكن العنصر "الهايكي" في سلطة إصدار النقود والذي كان محمياً بشدة ضد الضغوط السياسية، وبالتالي ضد السلوك السياسي المخزي، كان بمنزلة جزء "معاهدة ماستريخت" المؤسسة للاتحاد الأوروبي، كما اقترح كينيز في التخطيط لنظام ما بعد الحرب إصدار عملة عالمية تضمن الاستقرار وتمنع الانكماش. لم تكن رؤية استقلال البنك المركزي، باعتبارها جزءاً ضرورياً من بنية النظام السياسي السليم والمستقر، مجرد جزء من البناء الأوروبي في التسعينيات، بل لقد انعكست هذه الرؤية أيضاً في التغييرات التشريعية المؤثرة في بنوك مركزية أخرى، وفي الهيبة المتزايدة التي اكتسبها محافظو البنوك المركزية. بيد أن هذه الرؤية أصبحت الآن في مواجهة تحد خطير، ففي أعقاب الأزمة المالية الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، استمعنا مرة أخرى إلى من يطالب البنوك المركزية بتحويل الأوراق المالية الصادرة عن بعض المدينين، وليس غيرهم، إلى نقود، وهذه المهمة المتمثلة بالاختيار بين المدينين سياسية بدرجة كبيرة في المقام الأول، وتعمل على تسميم فكرة الاستقرار النقدي. كان جان كلود تريشيه، رئيس البنك المركزي الأوروبي إلى وقت قريب، يحب أن يقول إن المال مثله مثل قصائد الشِعر، قبل أن يستطرد قائلاً إن كلاً من المال والشِعر يمنحنا شعوراً بالاستقرار. والواقع أن هذه الصيغة غير العادية، رغم دقتها، تذكرنا برد الجنرال أوغست نايدهارت فون نيسيناو على الملك البروسي الذي اعتبر مخاوف الجنرال الوطنية في أوائل القرن التاسع عشر "مجرد شِعر" حين قال: "الدين، والصلاة، وحب الحاكم، وحب الوطن، أليس كل ذلك من الشِعر؟ إن أمن العرش يستند إلى الشِعر".إن استقرار المال أيضاً هو الأساس الذي يقوم عليه النظام السياسي. ولا ينبغي لنا أبداً أن نسمح لأزمة اليوم بأن تطغى علينا إلى حد نسيان هذه الحقيقة.* هارولد جيمس | Harold James ، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية بجامعة برينستون، وأستاذ التاريخ في معهد الجامعة الأوروبية بفلورنسا، ومؤلف كتاب «خلق وتدمير القيمة: دورة العولمة».«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
قصائد اليورو
11-12-2011