منذ اندلاع ثورة 25 يناير في مصر، تراجعت معظم الأنشطة الاقتصادية تراجعاً كبيراً، بفعل حال الغموض السياسي والاحتجاجات والاعتصامات المتتالية، لكن نشاطاً واحداً ظل يزدهر باطراد، إنه قطاع الإعلام، الذي زاد عدد قنواته وصحفه، وارتفع حجم الإنفاق فيه، رغم تردي عائدات الإعلان. كان قطاع العقار تحديداً أحد أكثر القطاعات تأثراً بالثورة، فقد تباطأت حركة بيع العقار وشرائه، كما انخفضت الإيجارات انخفاضاً واضحاً، لكن العاملين في صناعة الإعلام باتوا يدركون أن امتلاك شقة تطل شرفتها على ميدان التحرير يمكن أن يحقق ثروة كبيرة في فترة محدودة. تتسابق القنوات الفضائية ووكالات الأنباء الكبرى على تأجير الشرفات التي تطل على ميدان التحرير في قلب العاصمة المصرية من زوايا مختلفة، لتستطيع أن تزرع فيها كاميراتها، ووحدات البث الخارجي، ومن ثم تنقل صورة الميدان عبر أثيرها إلى العالم، فتحقق نسب مشاهدة عالية. يلعن بعض أصحاب المحال والشركات المطلة على الميدان التظاهرات الحاشدة التي يشهدها الميدان من أسبوع إلى آخر منذ اندلاع الثورة قبل عام وأربعة أيام، لأنها ربما عطلت نشاطاتهم وشلت أعمالهم، لكن ملاك الشرفات المطلة على الميدان يحققون ثراء لم يحلموا به قط لمجرد أنهم متصلون بقطاع الإعلام. تتزايد المساحة التي يحتلها الإعلام في الواقع الثوري المصري يوماً بعد يوم، لذلك تتجه العديد من التظاهرات والاعتصامات إلى مبنى "ماسبيرو"، وهو المبنى الذي يقع فيه اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري، الذي يضم عشرات المحطات الإذاعية والتلفزيونية المملوكة للدولة. يظل "ماسبيرو" أحد المواقع التقليدية المفضلة للتظاهر والاعتصام، سواء كان الأمر يتصل باحتجاجات ضد التمييز الديني، أو مطالبة بتسليم الحكم لسلطة مدنية، أو الاعتراض على عدم تسلم شقق ووظائف، أو التنديد بالموقف الذي اتخذته إحدى الشركات تجاه عدد من موظفيها. يعطي "ماسبيرو" أفضلية كبيرة لأي تظاهرة أو اعتصام في محيطه؛ فعوضاً عن التظاهر أو الاحتجاج ثم انتظار الإعلام ليأتي وينقل الحدث إلى العالم، يذهب المتظاهرون إلى الإعلام مباشرة، فيضمنون تغطية ميدانية حية ومتواصلة وساخنة، بصرف النظر عن حجم التظاهرة ووجاهة مطالبها. يصبح الإعلام هنا هدفاً في حد ذاته، تُصنع السياسة من أجله، لأن في الوصول إليه رواجاً وانتشاراً وضغطاً سياسياً واسعاً، يضاعف قيمة العمل الفعلي، ويحسّن حظوظ القائمين به، مهما كان باهتاً أو خافتاً. لذلك، فقد قام متظاهرون كثيرون باستخدام سلاح "الفيديوهات"، التي يتم التقاطها في مراحل معينة، وأوضاع محددة، ثم بثها بسرعة فائقة، عبر "اليوتيوب" و"فيس بوك" و"تويتر"، قبل أن تنقلها وسائط الإعلام التقليدية الأخرى، فتنتشر الرسالة، ويعم الشعور الذي تستهدف إشاعته بين الجمهور، وتظهر النتائج سريعاً في الميدان حين يتحرك هؤلاء الذين تلقوا الرسالة وتأثروا بها. على مدى السنة الماضية ظل ناقدون إعلاميون يحذّرون من "تثوير الإعلام"، ليبقى قادراً على نقل الحقائق بأقصى درجة ممكنة من الموضوعية والحياد للجمهور، بما يساعده على اتخاذ القرارات الصائبة وتكوين الرؤى حيال الأحداث المتلاحقة. لكن ما حدث كان تطوراً في الاتجاه المعاكس؛ فقد تمت "أعلمة الثورة" بمعنى "استيعابها إعلامياً"، عبر محاولة تحويلها إلى مجرد موضوع في الإعلام. حين حققت ثورة يناير هدفها الأول، بإسقاط الرئيس السابق حسني مبارك في 11 فبراير الماضي، برزت أسماء عدد من "الثوار" الذين كان لهم دور واضح في تحقيق الخطوة الثورية الأولى، من هؤلاء شيخ معمم يعمل خطيباً لمسجد عمر مكرم، وكان منوطاً به إلقاء خطب الجمعة الثورية التي تحشد المتظاهرين وتعبئهم. ومن هؤلاء أيضاً أكاديمي وناشط وعضو بالبرلمان، كان أحد المنظرين الأساسيين للتيار الليبرالي المنخرط بقوة في الثورة منذ يومها الأول، وهناك أيضاً عالم دين، تم تلقيبه بـ"أمين الثورة"، وشاعر وناشط وُصف بأنه "شاعر الثورة"، فضلاً عن ناشطة كانت اعتُبرت مسؤولة عن إشعال أحداث 6 أبريل 2008، التي كان لها أثر مهم في بلورة الشعور الغاضب والعازم على إسقاط نظام مبارك. كل هؤلاء الذين لعبوا أدواراً مميزة جداً خلال الثورة وقبلها، والذين ينظر إليهم على أنهم ناشطون أساسيون فيها ومسؤولون عن استمرار وهجها وتقويم مسارها، باتوا يقدمون برامج في قنوات فضائية. في اليوم الذي انتظره عشرات الملايين داخل مصر وخارجها، حين ظهر مبارك في القفص في افتتاح محاكمته هو ونجليه وبعض أركان نظامه، كان الجميع يترقب ما يجري باعتباره حدثاً تاريخياً غير مسبوق، حيث يوضع "الفرعون" في القفص للمرة الأولى في تاريخ البلاد، وتجري مساءلته علناً أمام شعبه. لكن بعض محامي المدعين بالحق المدني من أهالي شهداء الثورة ومصابيها، حولوا الأمر إلى مهزلة، حين تسابقوا على الوصول إلى "الميكرفون"، وبدلاً من تنظيم الدفاع عن المدعين، واختصار ممثليه لتركيز الدفوع وتحقيق مصلحة المجني عليهم، اندلعت المعارك بين المحامين لجذب الكاميرات إليهم، حتى لو كان ما يقولونه هزلياً ومبتذلاً وغير لائق ولا يخدم قضايا موكليهم. إنها كاميرات التلفزيون التي كانت موجودة لنقل الحدث المهم، باتت تلك الكاميرات هدفاً في حد ذاتها، وبدلاً من أن توجد لكي تنقل حدثاً للجمهور، أصبح وجودها في حد ذاته أهم عوامل صياغة الحدث والتأثير في مجرياته. في 23 يناير الجاري، اجتمع مجلس الشعب المنتخب في أولى جلساته، وهي جلسة تاريخية بكل المقاييس؛ ففضلاً عن كون هذا المجلس هو الأول من نوعه بعد ثورة يناير، فإنه يعد أول مجلس في تاريخ التجربة البرلمانية المصرية ينتخب بقدر من النزاهة وفير، ولا يوجد طعن واضح في شرعيته. لكن الأمر تحول بدوره إلى مهزلة بسبب نقل الجلسة على الهواء؛ وهو الأمر الذي أدى إلى أن يتخذ عدد من النواب أوضاعاً ويأتوا بتصرفات "تلفزيونية"، الغرض منها ليس مصلحة المجلس أو تحقيق أهداف الثورة أو إدراك الانسجام مع المعايير الدستورية والأعراف البرلمانية، ولكن الغرض منها يتلخص في لفت الأنظار عبر الإعلام. أضاف نواب عبارات إلى القسم الدستوري، وحذف آخرون كلمات منه، وطلب مرشحون لرئاسة المجلس بإقامة مناظرات، وانخرط آخرون في مشادات لا معنى لها، والهدف لم يكن سوى مغازلة الإعلام. يظل الإعلام عاملاً جوهرياً ومهماً لنقل أحداث الثورة وإحاطة الجمهور بها، ويقع الإشكال حينما يتحول إلى هدف في حد ذاته، يسعى الثوار والنواب والمسؤولون والمحامون والناشطون إلى بلوغه، فيزدهر هو، وتخسر الثورة.
* كاتب مصري
مقالات - زوايا ورؤى
ما بين الثورات والكاميرات
29-01-2012