كلما شاهدتُ جدّي وهو يتعبّد ويتنسّك لله حباً وقرباً في مدينة النبي تذكرتُ بالفعل التدين الحقيقي الذي كان عليه الآباء والأجداد. دين إطاره التنسّك والتعبّد، لا الكلام والمؤامرات والدسائس. مرت المنطقة بشكلين من أشكال العلاقة بالدين؛ التدين السلوكي، والتدين اللفظي السياسي. كانت الصحوة الإسلامية التي تغذت على أيديولوجيات الإخوان المسلمين، والتي هي خليط من الثورية والتنظيم السري المستمد من الشيوعية، ورغم أنها سابقة تاريخية، فإن الإخوان استفادوا نفسياً ومالياً من الثورة الإيرانية الخمينية، إضافة إلى الطموحات السياسية الممهورة برسم حسن البنا، كانت تلك الظاهرة الصحوية أساس وبداية التدين اللفظي بأبعاده السياسية. بينما كان الآباء والأجداد يعرفون الطريق إلى الله تعالى بأبسط الطرق، جرياً على نسك المتصوفة بأن الطرق إلى الله عديدة. بينما احتكرت الصحوة الإسلام، وحاولت أن تجعل الإيمان محصوراً بطريقٍ واحدٍ فقط. رسّخت الصحوة بعض المفاهيم الخاطئة، مثل ربط التدين بالشكل، باللحية والثوب، بأشياء شكلية ليست من صميم الدين. وقد رأينا كلنا بعض من يحمل سمات المتدينين بشكله وزيّه، ولكنه أبعد ما يكون عن التعاليم النبوية بسلوكه ولفظه وفعله. ورأينا بالمقابل بعض الذين لا لحى لديهم، ويسبلون الثياب، وهم على مستوىً من التدين والتنسّك والخوف من الله، بل لهم باع طويل في العبادة والإنفاق، وربما بكوا في الأسحار طلباً من الله أن يغفر لهم. وهذا التدين هو الأصدق والأقرب إلى الله تعالى من بعض الذين يضعون الأشكال فقط من دون أن يحملوا خلق النبي وسمته وهدوءه، بل إن بعضهم لا يتورع عن الشتم والقذف وإصدار فتاوى القتل، والتربص بالناس، والدعوة إلى قلب أنظمة الحكم وتكفير الحكام وإصدار كل ما من شأنه تأجيج البلاد، وتهييج العباد. لقد مر علينا زمان كنا نرى جداتنا بمصلّياتهنّ المعطّرة بـ"الرشوش" وبنسكهنّ، وبأيديهنّ المتضرّعة إلى الله تعالى حباً وقرباً، لم يكنّ صاحبات تلفظ ولا إزعاجٍ ولا مزايدةٍ في الدين. ورأينا في أحيائنا- في مرحلة ما قبل الأصوليات- كبار السنّ الذين يختمون القرآن، ويسبّحون في الأسحار، ممن كان لهم المسجد بيتاً ثانياً، ويختمون القرآن كل ثلاثة أيام، ورأيناهم بمصاحفهم الشاهدة على طاعتهم، والمغلّفة بالقماش المزركش حفاظاً على مواقف تلاوتهم، لم يقولوا لأحدٍ إن هذا كافر أو هذا مؤمن، بل يسلّم بعضهم على بعض، ويتمتمون بالذكر والتسبيح، ولا ترى في وجوههم إلا السلام والنور. هذا التدين الحقيقي، التدين السلوكي والقلبي هو الذي طمسته حركات الإسلام السياسي، وأصبحت تحصر التدين بقلب الأنظمة، أو استهداف العباد، وتقيس الغيرة على الدين بالشتم والقذف، وسوء الخلق. لم تزد حركات الإسلام السياسي المجتمعات إلا تأزيماً، حتى إن القمع الذي يمارسونه جعل الشباب ينفرون من التدين، والسؤال الذي يطرح اليوم هو عن سبب انتشار ما يسمى بـ"الزندقة". لنعد إلى من تسبب بالنفرة من التدين الحق، فسنجد أن أولئك المتطرفين هم من جعل الشباب أو بعضهم يبتعدون عن التدين، لأن التدين السلوكي انقرض أو كاد، وأصبحت الحالات الإسلامية مرتبطة برموزٍ وأتباعٍ ممن يمشون في الأسواق ويضربون النساء والأطفال والرجال والشباب، لهذا يحاول بعض الشباب أن ينتقم منهم باتجاهاتٍ متعددة. فلا تلوموا الشباب ولوموا أنفسكم. الخطاب الديني يجب أن يكون مستمداً من هدي النبي، لا من سياساتٍ تبحث عن النفوذ، وتستخدم الدين لضرب السلطة، وتجيّر الدين من وجهه الروحاني التعبدي، إلى وجوهٍ أخرى بعيدة كل البعد عن الدين. لنعد إلى التدين السلوكي الذي لا علاقة به بثورة الخميني وتعاليم حسن البنا وحسن نصرالله وأسامة بن لادن والظواهري. لنعد إلى تدين الأجداد والجدات، هذا هو المعنى الديني الحق، والله المستعان.
أخر كلام
لا لتسييس الدين!
06-03-2012