الأحلام قد تتحول إلى حقائق والتطلعات إلى شواهد ملموسة بطرفة عين. والفيلم الكويتي (تورا بورا) أحد الأمثلة على تحقيق الأحلام الجميلة. أن ترى طابوراً من الناس يقف أمام شباك تذاكر السينما لحجز مقاعد لمشاهدة فيلم كويتي أسوة بالأفلام العربية والأجنبية أمر يثلج القلب حقاً. فشكراً للمخرج المتميّز وليد العوضي على هذا الجهد الطيب.

Ad

بيد أن مساحة الإعجاب بالمحاولة الفنية تزداد حين يدرك المشاهد حساسية الموضوع المطروح في الفيلم أولاً، ومواقع التصوير المستحيلة بما تنطوي عليه من وعورة وخطر ثانياً. فموضوع مثل تجنيد الشباب الملتزم للجهاد في أفغانستان لايزال موضوعاً شائكاً وجدلياً، ولايزال الكثير من القضايا الخاصة بالمجاهدين الكويتيين وملاحقاتهم القضائية والدولية تراوح بين أخذ ورد، وبين تعاطف واستنكار وإدانة ودفاع. وتبني الفيلم لرسالة الإدانة المطلقة لفكرة (الجهاد) ورؤيتها كصورة من صور التضليل والتخريب يدل على موقف شجاع ولا شك.

هذا اللون من القضايا يحتاج بالطبع إلى مواقع تصوير حقيقية تدور فيها الأحداث، وهكذا أتت المشاهد لتضعنا في قلب الحدث، حيث الطرق الجبلية والصخور الوعرة والكهوف والبيوت القديمة والحواري المتربة، بل وحتى صخب الشوارع الأفغانية وناسها ومشاهدها الضاجة بالعنف والتوحش والبؤس والفوضى. وهذا النقل الحقيقي الحي يصيبك بالحيرة، فأنت لا تدري إن كانت هذه المشاهد من قبيل التمثيل أو الواقع الحياتي، وهل أولئك الناس بسحناتهم الأفغانية وأزيائهم المحلية وهيئاتهم التعبيرية هم من الممثلين الكومبارس أم أناس حقيقيون يعيشون واقعهم الحياتي اليومي!

أما (الحدوتة) في الفيلم والتي تدور حول والدين يتجشمان مهمة الذهاب إلى تورا بورا/ أفغانستان للبحث عن ولدهما الشاب الذي ذهب للجهاد هناك، فتترك بعضاً من التساؤلات في ذهن المشاهد. فعلى الرغم من التعاطف مع الوالدين المسنين وهدفهما النبيل، إلا أن إظهارهما بهذا العمر المتقدم والضعف والمرض قد لا يخدم مسألة الصدق الفني في قصة الفيلم، هذا إذا وضعنا في عين الاعتبار ما تنطوي عليه هذه القصة من مغامرة وأخطار وصعوبات تفوق التحمل، الأمر الذي يتسبب في موت الأم في منتصف الطريق، أما الأب فتبدو نجاته من الضرب والتعذيب والسجن ضرباً من المبالغة! ولعل ما يشفع لهذه الجزئية من حكاية الفيلم ما قام به الممثلون من أداء جيد، فقد قدّم سعد الفرج أفضل ما عنده، أما أسمهان توفيق فقد تفوقت على نفسها بتلك التلقائية الجميلة ولغة الجسد المعبرة رغم التحافها في معظم مشاهد الفيلم بالعباءة الأفغانية والنقاب المشبّك. ومن وراء هذا الأداء كانت الموسيقى التصويرية تأتيك مواويلاً أفغانية غامضة ومشجية.

أما السيناريو فقد جاء على جانب من التركيز والتكثيف، ويا حبذا لو اعتُمدت لهجة وسطى مبسطة بدلاً من اللهجة المحلية الصرفة التي قد تصعب بعض كلماتها على المشاهد العربي، وحبذا أيضاً لو تم اعتماد الترجمة المكتوبة للحوارات المتبادلة باللغة الأفغانية وما أكثرها في مشاهد الفيلم. وأعتقد أن تلك الحوارات المكثفة والمقننة كانت في محلها ما دامت المشاهد وفترات الصمت تغني عن الكلام. ورغم ذلك فهناك نوع من المباشرة الفجة والمغالطة إن صح التعبير في أهم مفاصل الفيلم، حين يلوم الأب نفسه في النهاية لوماً شديداً ويرى أنه قصّر في تربيته لابنه الأمر الذي دفعه إلى هذا المصير! فبدا الأمر وكأن مشكلة التطرف والإرهاب وغسل أدمغة الشباب مسؤولية التربية المنزلية ليس إلا! وهذه مغالطة كبيرة في رسالة الفيلم حين لا نضع في الاعتبار العوامل الأخرى الاجتماعية والتقلبات السياسية الحادة التي رانت على المنطقة، وصنعت لنا هذه النماذج من العقليات المضللة.

ينتهي الفيلم بعودة الابن الضال إلى صوابه وبجروح نفسية لا تندمل، كما ينتهي بقتل المصور والصحافي الفلسطيني الذي وثق الحكاية المؤلمة ليموت موتاً عبثياً دون معنى أو مغزى! وليت مخرج الفيلم جعل من هذا الموت سبباً لانتقال الأفلام التوثيقية من القتيل إلى الأسرة المنكوبة، ليتم نشرها أمام العالم وفضح واقع يضج بكل تلك القسوة والبشاعة.

وكما ينتهي الفيلم بهذا الكم من الهمّ الإنساني، ينتهي أيضاً بقطاف فني جميل يستحق المناقشة والتقدير.